الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

مواقف محمد المهدي السنوسي من بعض القضايا السياسية المعاصرة؛ الحركة العرابية والثورة السودانية

بقلم: الدكتور علي محمّد الصلابي

الحلقة الرابعة
صفر 1441 ه/ أكتوبر 2019

أولا: موقف محمد المهدي من الحركة العرابية:
عندما اشتعلت الثورة العرابية عام (1882 م)؛ اتصل أحمد عرابي طالباً للعون والمدد، وعلمت بريطانية بالأمر، فتدخَّلت لدى الدولة العثمانية ونشط قنصلها في طرابلس الغرب لمعرفة موقف المهدي، ويتَّضِح من إحدى الرسائل التي بعث بها والي طرابلس إلى ولاية بنغازي بتاريخ (16 أغسطس 1882 م) أنه انتشر خبر مضمونه: أن عدداً من قبائل برقة تهيؤوا للالتحاق بعرابي، وأن الخبر وصل إلى طرابلس من الآستانة، وأن قنصل بريطانية في طرابلس يستفسر عن صحته، ويقول الوالي: «في حال أن هذا الخبر صحيح نطلب منكم إجراء التدابير الحكيمة»، وقد اتضح لدى تحقيق المسؤولين في بنغازي أن هذه الجماعة التي تريد دخول مصر ما هي إلا حجاج، وأن شيخ الركب هو شيخ الحجاج.
إن المهدي السنوسي كان حريصاً على نموه الطبيعي، ولذلك ابتعد عن الدخول في حروب لم يستعد لها، ويبدو أن المهدي السنوسي لم يقتنع بجدوى الثورة، كأسلوب لتحقيق مطالب عرابي؛ لأنها تتيح للأجانب التدخل، وقد وضح هذا الرأي في رسالة بعث بها محمد الشريف أخو المهدي إلى الشيخ مصطفى المحجوب شيخ زاوية الطيلمون بتاريخ (شعبان 1306 هـ) بمناسبة قيام إحدى قبائل برقة بالعصيان على الدولة العثمانية، إذ قال فيها: «ونرجو أن تكون الفتنة التي بالوطن قد طفئت؛ لأنها مخيفة سيئة العاقبة، تشبه الفتنة العرابية التي من أجلها حل بالوطن الشرقي وأهله ما حل؛ لأنهم يحركونها ويعجزون عنها، فتكون العاقبة التسليم للأجانب، فلو أنهم سلكوا طريقاً غير هذا لكان أسهل وامن عاقبة، وذلك بأن يلتجئوا للحضرة السلطانية، ويلتمسوا من مراحمها الشاهانية، التخفيف من هذا المجهول عليهم قائلين: إنهم لا قدرة لهذا الأمر الشاق، والتكليف بما لا يُطاق، وإن قلتم: لا بد منه؛ نجلو عن الوطن بالكلية؛ إذ لا قدرة لنا على العطاء ولا على المخالفة..».
إن نظرة المهدي للثورات غير المدروسة دراسة دقيقة، تتيح للأجانب التدخل، ويرى أن طريق البناء والتربية والإعداد العقدي، والوسائل السلمية هي الطريقة المثلى، وتجنب الفتنة حتى لا يتدخل الأجانب في شؤون المسلمين، وكان المهدي قد ألزم نفسه وأتباعه سياسة حكيمة رشيدة، بعيدة عن ردود الأفعال، يقول الأستاذ نيقولا زيادة: «طلب العرابيون مساعدته عام (1882 م)، وتقدمت إليه إيطالية راغبة في الاتفاق معه على مقاومة التقدم الفرنسي في تونس عام (1881 م)، وحتى السلطان العثماني طلب منه العون في حربه هذه ضد روسية عام (1876 م)، وجرَّب الألمان أن يحصلوا على عون منه، ضد فرنسة في إفريقية عام (1872 م)، لكن السيد المهدي رفض جميع هذه العروض والطلبات، وفضل أن يظل بمنأى عن النزاع الدولي ليتم لهم نشر الإسلام وإصلاح أحوال المجتمع المسلم الذي نذر نفسه له، شأن أبيه من قبل».
حاول زعيم الثورة العرابية أحمد العرابي أن يثير الإخوان السنوسيين، وشرح لهم موقفه وجهاده، ومن بين من كتب لهم: السادة: أحمد الريفي، وفالح الظاهري، ومحمد البسكري، وأبي سيف مقرب، ومحمد المدني، وأحمد بن إدريس الأشهب، وأحمد العيساوي، وعندما وصلت الكتب إلى أولئك السادة رفع كل منهم كتابه الخاص إلى السيد المهدي، ورفضوا الرد على عرابي باشا ما لم يؤمروا من السيد المهدي، إذ لا حقَّ لهم في المخابرات السياسية والاتصال في مثل هذه الأحوال بالعالم الخارجي دون أن يأمرهم زعيم الحركة.وهذا يدل على قوة التنظيم، ومتانة الحركة، وهيبة القيادة، وفهم الإخوان وتلاحم الصف، ودراسة الأمور بتأنٍّ.
ثانيا: موقف المهدي السنوسي من الثورة السودانية
سمع محمد أحمد المهدي السوداني بما حققته الحركة السنوسية من نجاح فائق، وانتصار عظيم، وتوسع كبير في الصحراء الكبرى، وفي القبائل الليبية، فرغب بضم هذه الحركة إليه، فأرسل محمد المهدي في عام (1300 هـ) رسالة إلى محمد المهدي السنوسي مع أحد أتباعه، واسمه (الطاهر إسحاق) وهو من أهالي البلاد الواقعة غرب دارفور، وقد جاء في الرسالة:
«بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله الولي الكريم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد واله مع التسليم. وبعد:
فمن عبد ربه الفقير إليه محمد المهدي بن عبد الله، إلى حبيبه في الله محمد المهدي بن الولي السنوسي، فيا أيها الحبيب الواقف على سنة النبي المرشد المرقي العباد إلى مقام التقريب، قد كنا يا حبيبي ومن معنا من الأعوان ننتظرك لإقامة الدين قبل حصول المهدية للعبد الذليل، وقد كاتبناك لما سمعنا باستقامتك ودعايتك إلى الله على السنة النبوية، وتأهبك لإحياء الدين بأن نصير إليك ونجتمع معك، فلم ترد إلينا المكاتبة وأظن عدم وصولها إليك، حتى إني ذاكرت المعنيين فأبوا ذلك لهوان الدين عندهم، وتمكن حب الوطن والحياة في قلوبهم، وقلة توحيدهم، حتى بايعني الضعفاء على الفرار بالدين وإقامته على ما طلب رب العالمين، وقنعت نفوس من بايعنا من الحياة لما يرون للدين من الممات، ولا زال المساكين الذين لم يبالوا في الله بما فاتهم من المحبوب يزدادون، وفيما عند الله يرغبون، حتى هجمت المهدية الكبرى من الله ورسوله على عبده الحقير، والله هو الفاعل المختار الذي هو على كل شيء قدير، فأمرني رسول الله (ص) أن أكاتب بها الشرق والغرب من غني أو فقير، فصدق بها من أراد الله سعادته، وكذب بها الأشقياء، وصاروا في النكير، مع أن النبي (ص) قد خلفني بالمهدية مراراً بالجلوس على كرسيه، وألبسني سيفه بحضرة الخلفاء والأولياء والأقطاب والملائكة المقربين والخضر عليه السلام، وأعلمت أنه لا ينصر عليّ أحد بعد إتيان سيف النصر إليّ من حضرته (ص)، ولا زال التأييد من الله ورسوله يزداد، وأنت منا على بال، حتى جاءتنا الأخبار فيك من النبي (ص)، أنك
من الوزراء لي، ثم لا زلنا ننتظرك حتى أعلمنا النبي (ص) والخضر عليه السلام بأحوالكم وما أنتم عليه، ثم حصلت حضرة عظيمة عين فيها النبي (ص) خلفاء خلفائه من أصحابي، فجلس أحد أصحابي على كرسي أبي بكر الصديق، وأحدهم على كرسي عمر، وأوقف كرسي عثمان، وقال: هذا الكرسي لابن السنوسي إلى أن يأتيكم بقرب أو طول، وأجلس أحد أصحابي على كرسي علي رضوان الله عليهم أجمعين.
ولا زالت روحانيتك تحضر معنا في بعض الحضرات مع أصحابي الذين هم خلفاء خلفاء رسول الله (ص)، واعلم وإن كان لا يخفى عليك أن المهدية كعلم الساعة لا يعلمها على الحقيقة إلا الله كما بيَّنه المحققون، كالسيد أحمد بن إدريس، فإنه قد قال: «كتبت في المهدية أربع عشرة نسخة من نسخ أهل الله»، وقال: «سيخرج من جهة لا يعرفونها، وعلى حال ينكرونها». وكذلك قال محيي الدين في بعض تفاسيره... إلى غير ذلك من أقوال المحققين، ولا سيما وأن المهدية لا تدعى لكثرة أعدائها وقوتهم، وعلى أنها لما ظهرت أنا بينهم أظهرهم في أشد الضعف والقلة، فلولا أنها من الله تعالى ما مكثنا في الدنيا يوماً واحداً من شدة قوتهم وضعفنا، وهم محتاطون بنا من كل جانب، فألقى الله في قلوبهم الرعب ومدهم بالخيبة، وقد أمرنا النبي (ص) بالهجرة إلى جبل الغرب يقال له: قدير، بلصق جبل يقال له: ماسة، فجمعوا جموعهم إلينا مراراً فقتلهم الله وأحرق جلودهم بالنار، يرى ذلك الخاص والعام علامة لشقاوة من أنكر مهديتي، وقد أعلم (ص) أن من شك في مهديتي كافر، وكررها ثلاثاً ومراراً، يقول: من أنكر مهديتي ومن خالفني فأبى أمري كافر، فمن أراد الله له السعادة صدق بمهديتي، ومن جعل الله له شكوكاً وشبهاً تصده عن الإيمان بمهديتي، فيخذله الله في الدنيا قبل الاخرة، إلا من أراد الله تعالى له الهداية بعد. فإذا بلغك جوابي هذا، إما أن تجاهد في جهاتك إلى مصر وجهاتها، أو تهاجر إلينا».
وكان رد السنوسي بقوله: «إنني لم أبلغ منزلة الغبار الذي ثار في أنف فرس عثمان رضي الله عنه في إحدى غزواته مع رسول الله (ص)، ولا جواب عندي على هذا الكتاب». ثم أمر الرسول بالعودة من حيث جاء، «وأوصى ملك واداي بأن لا يحرك ساكناً مع المتمهدي، بل إذا جاءه محارباً يحاربه».
ولم يؤمن المهدي السنوسي ولا علماء الحركة السنوسية بمهدية محمد أحمد السوداني، وقاوم أتباع الحركة السنوسية في السودان الغربي نفوذ ثورة محمد أحمد السوداني، ويذكر محمد الطيب الأشهب أن سلطان برقو أرسل للمهدي السنوسي يستوضحه ماذا يكون موقفه من التعايشي الذي طلب مؤازرته، فكان رد المهدي: «إنه إنما يعني بالدعوة إلى إصلاح الدين سلماً ولا حرباً، بينما تنفر الملة التي يراد إحياؤها نفوراً عظيماً، بل وتشتد ثورتها ضد الدماء التي يهدرها، والجرائم التي يرتكبها في السودان»، وقد قامت الممالك في السودان الغربي (تشاد) بمحاربة التعايشي خليفة محمد أحمد السوداني، وحدّت من انتشار حركته.
إن علماء الحركة السنوسية وعلى رأسهم المهدي السنوسي لم يؤمنوا بمهدية محمد أحمد، وكذلك رفضوا القول بمهدية المهدي السنوسي، واعتبره محمد المهدي السنوسي نوعاً من التخريف، ويرجع ذلك إلى علمهم المتين، واستيعابهم لكتاب الله والسنة التي بينت حقيقة المهدي المنتظر، والتزموا بعقيدة أهل السنة والجماعة التي وضحت هذا المعتقد.
إن الأحاديث الصحيحة بينت بأن الله تعالى يُخْرِجُ في اخر الزمان رجلاً من أهل البيت يؤيد الله به الدين، يملك سبع سنين يملأ الأرض عدلاً وسلاماً، كما مُلئت جوراً وظلماً، تنعم الأمة في عهده نعمة لم تنعمها قطُّ، وتُخرج الأرض نباتها، وتمطر السماء قطراً، وتُعطي المال بغير عدد.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: «في زمانه تكون الثمار كثيرة، والزروع غزيرة، والمال وافر، والسلطان قاهر، والدين قائم، والعدو راغم، والخير في أيامه دائم».
وهذا الرجل اسمه كاسم رسول الله (ص)، واسم أبيه كاسم أبي النبي (ص)، فيكون اسمه محمد، أو أحمد بن عبد الله، وهو من ذرية فاطمة بنت رسول الله (ص)، ثم من ولد الحسين بن علي رضي الله عنه.
قال ابن كثير رحمه الله في المهدي: «وهو محمد بن عبد الله العلوي الفاطمي الحسيني رضي الله عنه». وصفته الواردة: «أنه أجلى الجبهة، أقنى الأنف».
ويكون مكان ظهوره من قبل المشرق، فقد جاء في الحديث عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): «يقتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق، فيقتلوكم قتلاً لم يقتله قوم، ... (ثم ذكر شيئاً لا أحفظه) فإذا رأيتموه فبايعوه، ولو حبواً على الثلج، فإنه خليفة الله المهدي».
قال ابن كثير رحمه الله: «والمراد بالكنز المذكور في هذا السياق كنز الكعبة، يقتتل عنده ليأخذه ثلاثة من أولاد الخلفاء، حتى يكون اخر الزمان، فيخرج المهدي، ويكون ظهوره من بلاد المشرق «لا من سرداب سامراء» كما يزعم جهلة الرافضة من أنه موجود فيه إلى الان، وهم ينتظرون خروجه في اخر الزمان، فإن هذا النوع من الهذيان، وقسط كبير من الخذلان شديد من الشيطان، إذ لا دليل على ذلك، ولا برهان لا من كتاب ولا سنة، ولا معقول صحيح، ولا استحسان، إلى أن قال: ويؤيد بناس من أهل الشرق ينصرونه، ويقيمون سلطانه، ويشيدون أركانه، وتكون راياتهم سوداً أيضاً، وهو زي عليه الوقار؛ لأن راية رسول الله (ص) كانت سوداء يقال لها: العقاب».
إلى أن قال: «والمقصود أن المهدي الممدوح الموعود بوجوده في اخر الزمان يكون أصل ظهوره وخروجه من ناحية المشرق، ويبايع له عند البيت، كما دلت على ذلك بعض الأحاديث».
ذكر الإمام البخاري في «صحيحه» عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (ص): «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم؟».
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: سمعت رسول الله (ص) يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة»، إلى أن قال: «فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة».
والأحاديث التي وردت في الصحيحين تدل على أمرين:
أحدهما: أنه عند نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء يكون المتولي لإمرة المسلمين رجل منهم.
والثاني: أن حضور أميرهم للصلاة، وصلاته بالمسلمين، وطلبه من عيسى عليه السلام عند نزوله أن يتقدم ليصلي لهم يدل على صلاح هذا الأمير وهُداه.
وجاءت الأحاديث في السنن والمسانيد وغيرها مفسرة لهذه الأحاديث التي في الصحيحين، ودالة على أن ذلك الرجل الصالح يُسمى: محمد بن عبد الله، ويقال له المهدي، والسنة يفسر بعضها بعضاً.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (ص): «منا الذي يصلي عيسى ابن مريم خلفه».
وعن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (ص): «ينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضهم أمير بعض، تكرمة الله هذه الأمة».
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): «المهدي مني أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يملك سبع سنين».
لقد جاءت الأحاديث بالتواتر عن خبر المهدي:
قال الشوكاني: «الأحاديث في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً، فيها الصحيح والحسن والضعيف والمنجبر، وهي متواترة في جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول، وأما الاثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي، فهي كثيرة أيضاً، لها حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك».
قال صديق حسن خان: «الأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جدّاً، تبلغ حد التواتر المعنوي، وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد».
وقال الشيخ محمد بن جعفر الكتاني: «والحاصل أن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة، وكذا الواردة في الدجال، وفي نزول سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام».
وأما العلماء الذين صنفوا كتباً في المهدي بالإضافة إلى كتب الحديث المشهورة، كالسنن الأربعة، والمسانيد: مسند أحمد، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى، ومسند المحارب بن أبي أسامة، ومستدرك الحاكم، ومصنف ابن أبي شيبة، وصحيح ابن خزيمة، وغيرها من المصنفات التي ذكرت فيها أحاديث المهدي، فإن طائفة من العلماء أفردوا في المهدي المنتظر مؤلفات ذكروا فيها جمعاً كبيراً من الأحاديث الواردة فيه، وما يؤسف له أن طائفة من الكتاب أمثال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير (المنار) وصف أحاديث المهدي بالتناقض والبطلان، وأن المهدي ليس إلا أسطورة اخترعتها الشيعة، ثم دخلت كتب أهل السنة.
وممن أنكر أحاديث المهدي صاحب (دائرة معارف القرن العشرين) محمد فريد وجدي، وسار على نفس الخط أحمد أمين في كتابه (ضحى الإسلام).
ويبدو أن هؤلاء الكتَّاب تأثَّروا بما ذكره المؤرخ ابن خلدون في تضعيفه لأحاديث المهدي، مع العلم أن ابن خلدون ليس من فرسان هذا الميدان حتى يقبل قوله في التصحيح والتضعيف، ومع هذا فقد قال بعد أن استعرض كثيراً من أحاديث المهدي وطعن في كثير من أسانيدها: «فهي جملة الأحاديث التي خرّجها الأئمة في شأن المهدي، وخروجه اخر الزمان، وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل أو الأقل منه».
قال يوسف الوابل في (أشراط الساعة) تعليقاً على قول ابن خلدون: «ونقول: لو صح حديث واحد، لكفى به حجة في شأن المهدي، كيف والأحاديث فيه صحيحة متواترة».
قال الشيخ أحمد شاكر ردّاً على ابن خلدون: «إن ابن خلدون لم يحسن قول المحدثين: الجرح مقدم على التعديل، ولو اطلع على أقوالهم وفقهها، ما قال شيئاً مما قال، وقد يكون قرأ وعرف، ولكنه أراد تضعيف أحاديث المهدي بما غلب عليه من الرأي السياسي في عصره».
ثم بين أن ما كتبه ابن خلدون في هذا الفصل عن المهدي مملوء بالأغاليط في أسماء الرجال ونقل العلل، واعتذر عنه بأن ذلك قد يكون من الناسخين، وإهمال المصححين.
إن ما ذهب إليه محمد رشيد رضا وابن خلدون ومحمد فريد رحمهم الله تعالى ليس صواباً، وإنما الحجة في كتاب الله وسنة رسوله (ص)، والروايات المذكورة في خروج المهدي صحيحة متواترة تواتراً معنويّاً، وهذا يكفي، وأما كون الأحاديث قد دخلها كثير من الإسرائيليات، وأن بعضها من وضع الشيعة وغيرهم من أهل العصبيات، فهذا صحيح، ولكن أئمة الحديث قد بينوا الصحيح من غيره، وصنفوا الكتب في الموضوعات وبيان الروايات الضعيفة، ووضعوا قواعد دقيقة في الحكم على الرجال، حتى لم يبق صاحب بدعة أو كذب إلا وأظهروا أمره، فحفظ الله السنة من عبث العابثين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وهذا من حفظ الله لهذا الدين.
وإذا كانت هناك روايات موضوعة في المهدي تعصباً فإن ذلك لا يجعلنا نترك ما صح من الروايات فيه، والروايات الصحيحة جاء فيها ذكر صفته واسمه واسم أبيه، فإذا عين إنسان شخصاً، وزعم أنه هو المهدي، دون أن يساعده على ذلك ما جاء من الأحاديث الصحيحة، فإن ذلك لا يؤدي إلى إنكار المهدي على ما في الحديث، ثم إن المهدي الحقيقي لا يحتاج إلى أن يدعو له أحد، بل يظهره الله إلى الناس إذا شاء، ويعرفونه بعلامات تدل عليه.
وأما دعوى التعارض، فقد نشأت عن الروايات التي لم تصح، وأما الأحاديث الصحيحة، فلا تعارض فيها والحمد لله، وأيضاً فإن خلاف الشيعة مع أهل السنة لا يُعتد به، والحكم العدل هو الكتاب والسنة الصحيحة، وأما خرافات الشيعة وأباطيلهم، فلا يجوز أن تكون عمدة يُردُّ بها ما ثبت من حديث رسول الله (ص).
قال العلامة ابن القيم في كلامه عن المهدي: «وأما الرافضة الإمامية، فلهم قول رابع؛ وهو أن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري المنتظر، من ولد الحسين بن علي لا من ولد الحسن، الحاضر في الأمصار الغائب عن الأبصار، الذي يورث العصا، ويختم الفضا، دخل سرداب سامراء طفلاً صغيراً من أكثر من خمسمئة سنة، فلم تره بعد ذلك عين، ولم يُحس فيه بخبر ولا أثر، وهم ينتظرونه كل يوم ويقفون بالخيل على باب السرداب ويصيحون به أن يخرج إليهم: اخرج يا مولانا اخرج يا مولانا، ثم يرجعون بالخيبة والحرمان، فهذا دأبهم ودأبه، ولقد أحسن من قال:
ما ان للسرداب أن يَلد الذي كلمتموه بجهلكم ما انا؟
فعلى عقولكم العفاءُ فإنَّكم من ثلَّة العنقاء والغيلانا
ولقد أصبح هؤلاء عاراً على بني ادم وضحكة يسخر منهم كل عاقل».
إن التهمة الموجهة للحركة السنوسية بأن أتباعها يعتقدون في الإمام محمد المهدي السنوسي هو المهدي المنتظر تهمة باطلة، رفضها الإمام محمد المهدي، وعارضها، وأبى الموافقة على القول بها، وعندما سئل الملك محمد إدريس رحمه الله عن رأي أبيه في قول بعض أتباع الطريقة بمهديته أجاب: «كان كلما سمع هذا القول نفاه بشدة، وأبداً لم يعتقد به...».

مراحع البحث:
1. -علي محمد محمد الصلابي، مِنْ أَعْلَامِ التَّصَوُّفِ السُّنِّيِّ: 6سيرة الزعيم محمد المهدي السنوسي،دار الروضة،اسطنبول،1438ه،2017م ص (48:36)
2. إبراهيم فوزي، السودان بين يدي غوردن و كتشنر، دار الكتب و الوثائق القومية،القاهرة،1429ه،2008م،(1/216).
3. محمد الطيب الاشهب، برقة العربية بين الأمس واليوم،دار الهواري:القاهرة،1364ه،1945م، ، ص (154).
4. محمد رشيد رضا، تفسير المنار (تفسير القرآن الكريم)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990م،(9/499 504).


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022