إعلان قيام الدولة العباسية
من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
الحلقة: 264
بقلم: د. علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1442 ه/ يوليو 2021
بقى العباسيون في معزلهم بالكوفة مدة أربعين يوماً ، إلى أن علم بأمرهم بعض قادة الجيش في معسكر حمام أعين ، وعلى رأسهم القائد أبو الجهم بن عطية ومعه من القادة موسى بن كعب التميمي، وإبراهيم بن محمد الحميري، وأبو غالب عبد الحميد بن ربعي، وسلمة بن محمد ، وعبد الله الطائي ، وإسحاق بن إبراهيم ، وشراحبيل ، وعبد الله بن بسام وغيرهم ، وجاؤوا إلى العباسيين وبايعوا أبا العباس عبد الله بن الحارثية ، وسلموا عليه بالخلافة في 12 ربيع الأول 132 هـ ، ثم أخرجوه إلى منبر المسجد لإعلان خلافته ، وتسمى أبو العباس بأمير المؤمنين؛ بينما اتخذ أبو سلمة الخلال لقب وزير ال محمد.
وجاء في رواية: أن أبا سلمة الخلال عندما أراد إخراج الخليفة العباسي نزل إلى السِّرداب وصاح: يا عبد الله ، مُدَّ يدك، فتبارى إليه الأخوان. فقال: أيُّكما الذي معه العلامة؟ قال المنصور: فعلمت أني أخرت ، لأني لم يكن معي علامة ، فتلا أخي العلامة وهي: [القصص: 5] فبايعه أبو سلمة وخرجوا جميعاً إلى جامع الكوفة، فبُويع وخطب الناس فكان أول ما نطق به:
الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه فكرّمه وشرّفه وعظَّمه واختاره لنا ، وأيَّدهُ بنا ، وجعلنا أهله وكهفه والقوّام به والذَّابين عنه ، والناصرين له ، وألزمنا كلمة التقوى ، وجعلنا أحق بها وأهلها ، خصَّنا برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته ، واشتقَّنا من نبعته ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع ، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتاباً يتلى عليهم ، فقال: [الأحزاب: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا *} ، وقال: [الشورى: 23]. وقال: [الحشر: 7]. فأعلمهم الله {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ً ïمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} وجل فضلنا ، وأوجب عليهم حقنا ومودَّتنا ، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا ، تكرمة لنا ، وفضلة علينا ، والله ذو الفضل العظيم.
وزعمت السَّبئيَّة الضلال أن غيرنا أحقُّ بالرّياسة والسياسة والخلافة منا ، فشاهت وجوههم؛ بم ولم أيها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم ، وبصَّرهم بعد جهالتهم ، وأنقذهم بعد هلكتهم ، وأظهر بنا الحق وأدحض بنا الباطل ، وأصلح بنا منهم ما كان فاسداً ، ورفع بنا الخسيسة ، وأتمّ النَّقيصة ، وجمع الفرقة ، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبرّ ومواساة في دنياهم ، وإخواناً على سُرُر متقابلين في أُخراهم ، فتح الله ذلك مِنَّةً ومنحة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فلما قبضه الله إليه قام بذلك الأمر من بعده أصحابه وأمرهم شورى بينهم ، فحَوَوْا مواريث الأمم فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها ، وأعطوها أهلها وخرجوا خِماصاً منها ، ثم وثب بنو حرب ومروان فابتزُّوها وتداولوها ، فجاروا فيها ، واستأثروا بها وظلموا أهلهـا ، فأملى الله لهم حيناً حتى اسفوه ، فلمّا اسفوه انتقم منهم بأيدينا ، وردّ علينا حقَّنا ، وتدارك بنا أمَّتَنا وتولى نصرنا والقيام بأمرنا؛ ليَمُنَّ بنا على الذين استضعفوا في الأرض ، وختم بنا كما افتتح بنا ، وإني لأرْجُو أن لا يأتيكم الجَور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصَّلاحُ، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله.
يا أهل الكوفة ! أنتم محلُّ محبَّتنا ومنزل مودَّتنا ، وأنتم أسعد الناس بنا ، وأكرمهم علينا ، وقد زدتكم في أعطياتكم مئة درهم ، فاستعدوا فأنا السَّفَّاح الهائج والثائر المبير.
وكان به وعك فاشتَّد عليه حتى جلس على المنبر ، ونهض عمُّه داود فقال: الحمد لله شُكراً شُكراً شكراً الذي أهلك عدوَّنا ، وأصار إلينا مِيراثنا من نبينَا ، أيها الناس الان انقشعت أرْضُها وسماؤها ، وطلعت الشمس من مطلعهـا ، وبزغ القمر من مبزغـه ، ورجع الحقُّ إلى نصابه في أهل بيت نبيكم ، أهل الرَّأفة والرّحمة بكم والعطف عليكم.
أيها الناس ! إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنُكثر لجُيناً ولا عقياناً ، ولا لنحفر نهراً ولا لنبني قصراً ، وإنما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقَّنا ، والغضب لبني عمِّنا ولسوء سيرة بني أمية فيكم ، واستذلالهم لكم واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ، فلكم علينا ذمة الله وذمة رسوله وذمّة العباس ، أن نحكم فيكم بما أنزل الله ، ونعمل بكتاب الله ، ونسير في العامّة منكم والخاصَّة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تبَّاً تباً لبني أمية وبني مروان؛ اثروا العاجلة على الاجلة ، والدارَ الفانية على الدار الباقية ، فركبوا الاثام وظلموا الأنام ، وارتكبوا المحارم وغشوا الجرائم ، وجاروا في سيرتهم في العباد وسُنَّتِهم في البلاد التي بها استلذُّوا تُسربل الأوزار ، وتجلبُب الاصار ، ومَرِحوا في أعنَّة المعاصي ، وركضوا في ميادين الغيّ جهلاً باستدراج الله ، وأمناً لمكر الله ، فأتاهم بأس الله بياتاً وهم نائمون ، فأصبحوا أحاديث ، ومزّقوا كل مُمَزق ، فبُعداً للقوم الظالمين . وأدالنا الله من مروان ، وقد غرَّه بالله الغرور ، وأرسل لعدوّ الله في عنانه حتى عثر في فضل خطامه؛ أظن عدو الله أن لن نقدر عليه ؟ فنادى حزبه، وجمع مكايده ، ورمى بكتائبه ، فوجد أمامـه ووراءه وعن يمينـه وشماله من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله ومحق ضلاله ، وجعل دائرة السَّوءِ به ، وأحيا شرفنا وعزنا ، وردَّ إلينا حقَّنا وإرثنا،... فادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية ، فقد أبدلكم الله بمروان عدوِّ الرحمن وخليفة الشيطان ، المُتَّبع للسَّفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد صلاحها ، الشابَّ المتكهِّل المقتدي بسلفه الأبرار الأخيار ، الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهُدى ومناهج التُّقى.
قال: فعجّ الناس له بالدعاء... ثم قال: واعلموا يا أهل الكوفة أنه لم يصعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد هذا ـ وأشار بيده إلى السَّفَّاح ـ ، واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نُسلِّمه إلى عيسى ابن مريم عليه السلام ، والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا.
ثم نزل أبو العباس وداود حتى دخلا القصر ، ثم دخل الناس يُبايعون إلى العصر ثم من بعد العصر إلى الليل.
وخرج أبو العباس يوم السبت من الكوفة إلى معسكره في حمام أعين مع الأمير أبي سلمة وجعل على حجابته عبد الله بن بسام ، وجعل على الكوفة وأعمالها عمه داود بن علي ، وجهز أبو العباس جيشاً قوامه ثلاثون ألفاً لمواجهة جيش الخليفة مروان بن محمد بقيادة الخليفة نفسه في الموصل ، وقد أسند أبو العباس قيادة هذا الجيش لعمه عبد الله بن علي ومعه يزيد بن عيسى بن موسى ، فتحرك الجيشان للمواجهة ، فالتقيا على نهر الزاب الأكبر في معركة حاسمة.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: