الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج1)
(الخطوط العامة لسياسة الخليفة عبد الملك في إدارة شؤون الدولة)
الحلقة: 116
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ يناير 2021
1 ـ المشاورة:
كان يعتمد على المشاورة في إنجاز مهمات الدولة، وبخاصة في الأمور المهمة، فهو القائل: المشاورة تفتح مغاليق الأمور ، فقد استشار أصحابه في المسير إلى مصعب بن الزبير في العراق ، كما قبل مشورة روح بن زنباع بتولية الشعبي قضاء البصرة، حينما استشار الخليفة أصحابه بذلك ، وكان من أكبر مستشاريه ربيعة الجرشي، وروح بن زنباع ، وعلى الرغم من ذلك لم يكن يأخذ بكل استشارة، فكان يشاور يحيى بن الحكم، ثم يخالفه، ويقول: من أراد صواب الرأي فليخالف يحيى بن الحكم فيما يشير به عليه .
2 ـ اعتماده على أهل الشام:
كان الخليفة عبد الملك يعتمد على أهل الشام، لأنهم أخلصوا له، فكان يخاطبهم: يا أهل الشام ! إنما أنا لكم كالظليم الرامح على فراخه؛ يتقي عنهم القذر، ويباعد عنهم الحجر، ويكفهم من المطر، ويحميهم من الضباب، ويحرسهم من الذئاب، يا أهل الشام ! أنتم الجبة والرداء، وأنتم العدة والجداء . ولا غرابة في ذلك فملك بني أمية قام على أكتاف قبائل الشام وجنودها.
3 ـ الشخص المناسب في المكان المناسب:
وقد حرص على تحقيق هذا المبدأ، وكان يوكل المهمات لأصحابها، ففي رسالة جوابية أرسلها الخليفة عبد الملك إلى خالد بن عبد الله أمير البصرة، سنة 72 هـ؛ قال له فيها: .. فقبح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابياً من أهل مكة على القتال، وتدع المهلب إلى جنبك يجبي الخراج، وهو الميمون النقيبة، الحسن السياسة، البصير بالحرب، المقاسي لها، ابنها وابن أبنائها... فإذا أنت لقيت عدوك فلا تعمل برأي حتى تحضره المهلب وتستشيره فيه . كما كان يحسن معاملة قادته وحاشيته ويكرمهم ويمن عليهم، ويواسيهم، ويزورهم إذا مرضو .
4 ـ متابعة أخبار العمال والولاة:
فقد كان يقظاً وحريصاً على نزاهة عماله، واستقامة أخلاقهم وبعدهم عن الشبهات، فعندما بلغه أن عاملاً من عماله قبل هدية، استدعاه إليه ثم سأله: أقبلت هدية منذ وليت؟ قال: يا أمير المؤمنين بلادك عامرة، وخراجك موفور، ورعيتك على أفضل حال، قال: أجب فيما سألتك عنه، أقبلت هدية منذ وليتك؟ قال: نعم، قال: إن كنت قبلت ولم تعوض إنك للئيم، ولئن كنت أنلت مهديها من غير مالك، أو استكفيته ما لم يكن مثله مستكفاه، إنك لخائن جائر، وما أتيتَ أمرٌ لا تخلو فيه من دناءة أو خيانة أو جهل مصطنع، وأمر بصرفه عن عمله .
5 ـ تقديم الأقرباء في المناصب وحفظ التوازن القبلي:
كان الخليفة عبد الملك في اختياره لعماله قد حبَّذ أقرباءه من أفراد البيت الأموي بالدرجة الأولى، واستعملهم في المناصب المختلفة، إلا أنه كان يراقبهم مراقبة دقيقة، ويعزل من أظهر عجزاً أو أخفق في عمله، كما أنه استخدم ولاته على الأقاليم في الأغلب من قبائل عرب الشمال (مضر)، بينما اختار موظفي إدارته إلى حد كبير من قبائل عرب الجنوب (اليمن)، ويبدو أن هذه كانت إحدى الوسائل التي اتبعها الخليفة لحفظ التوازن القبلي.
6 ـ تسامحه مع أهل الكتاب:
كان عهد عبد الملك عصر تسامح مع أهل الذمة، فلم يحاول الخليفة عبد الملك الاستيلاء على كنيسة يوحنا عندما رفض أهل الذمة تسليمها إليه ، كما أنه سمح لهم بممارسة طقوسهم الدينية بحريَّة، وبناء الكنائس والأديرة، فقد شيّد أثيناس ـ كاتب ديوان خراج مصر على عهد عبد العزيز ـ كنيسة (أم الإله) في الرها، كما شيّد في مصر أيضاً كنيستين وديراً، فضلاً عن إشغالهم مناصب عالية في إدارة الدولة ، إذ كان الخليفة يثق بهم .
7 ـ التحقيق مع العمال المشتبه فيهم ومقاسمة أموالهم:
وقد قام عبد الملك بمقاسمة بعض عماله، وقد أراد التشبه بالخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الشأن؛ فقد جعل الضحاك بن عبد الرحمن الأشعري بمثابة المسؤول عن مراقبة ومتابعة القضايا المالية في الأقاليم، فقد أرسله إلى الجزيرة الفراتية لدراسة وإصلاح الضرائب هناك ، كما قاسم (أثيناس) كاتب خراج مصر أمواله ، وبذلك اتبع نظاماً دقيقاً للاستخراج أو التكثيف، حيث كان يحقق مع الجباة وعمال الخراج ـ المشكوك في أمرهم ـ عند اعتزالهم عملهم، ويستنطقهم حتى يعترفوا بما ارتكبوا من مخالفات، وكان التحقيق مع هؤلاء يتم في أماكن خاصة تسمى (دار الاستخراج) .
8 ـ الإحسان لمن ندم وبايع من أصحاب ابن الأشعث:
وبعد انتهاء تمرد ابن الأشعث كتب الخليفة إلى الحجّاج، في أخذ البيعة له من الناس قائلاً: أن ادعُ الناس إلى البيعة، فمن أقرّ بذنبه وندم على فعله فخلِّ سبيله ، وعند ذلك أمر عبد الملك الحجّاج بإعطاء الناس عطاءهم، فكتب إليه الحجّاج: إنهم نكثوا العهد ونقضوا البيعة وفارقوا الجماعة، وطعنوا على الأئمة. فكتب إليه عبد الملك: إنما تجب طاعتنا عليهم بأن نعطيهم حقوقهم . وحين حاول الحجّاج أن يأخذ فضول (فروق العملة) أموال السواد، كتب الخليفة إليه يمنعه من ذلك قائلاً له: لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك، وأبقِ لهم لحوماً يعقدون بها شحوماً .
9 ـ احترام وتقدير الشخصيات البارزة في المجتمع:
أدرك الخليفة عبد الملك أهمية توثيق العلاقة واحترامها مع الشخصيات البارزة في المجتمع، فقد حرص على كسبها وتأييدها، فحين بايع محمد ابن الحنفية لعبد الملك أعطاه الخليفة ميثاقاً، وكتب إليه: إنك عندنا محمود... فلك العهد والميثاق وذمة الله ورسوله أن لا تهاج ولا أحد من أصحابك بشيء تكرهه، كما قضى حوائجه ، وكتب عبد الملك للحجّاج: لا تعرض لمحمد ولا لأحد من أصحابه . فلم يعترض الحجّاج لأحد من ال أبي طالب خلال ولايته، كما عزز عبد الملك الصلات مع ال العباس، فكان يكرم علي بن عبد الله بن العباس، ويعرف له حقه ويستوصي به خيراً، وكانت كتبه ترد إلى الحجّاج يأمره فيها أن لا يسيء إلى عروة بن الزبير .
وبذلك نجح عبد الملك في الاحتفاظ بصلات حسنة بين الأمويين وبني هاشم ـ علويين وعباسيين ـ، فلم يُقتل أحدٌ من العلويين في عهده، فكانت هذه ثمرة حسن سياسته وبُعد نظره .
10 ـ تحجيم الولاة إذا أرادوا تجاوز الخطوط الحمراء:
كان عبد الملك لا يسمح لولاته مجاوزة الخطوط الحمراء، فعندما أساء الحجّاج لأنس بن مالك كان رد عبد الملك على الحجّاج قاسياً؛ وقصة ذلك: دخل أنس بن مالك على الحجّاج بن يوسف، فلمّا وقف بين يديه، سلّم عليه فقال له: إيهٍ إيهٍ يا أُنيس ! يوم لك مع عليٍّ، ويوم لك مع ابن الزبير، ويوم لك مع ابن الأشعث، والله لأستأصِلنَّك كما تستأصل الشأفة ، ولأدمغنك كما تُدمغ الصمغة. فقال أنس: إيَّاي يعني الأمير أصلحه الله؟ قال: إياك، سك الله سمعك. قال أنس: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والله لولا الصبية الصغار ما باليت أيَّ قتلة قُتلتُ ولا أيَّ ميتة مِتُّ. ثم خرج من عند الحجّاج، فكتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره بما قال الحجّاج، فلمّا قرأ عبد الملك كتاب أنس استشاط غضباً وصَفَّقَ عجباً، وتعاظم ذلك من الحجّاج، وكان كتاب أنس: إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من أنس بن مالك، أما بعد: فإن الحجّاج قال لي هُجراً ، وأسمعي نُكراً، ولم أكن لذلك أهلاً، فخذ لي على يديه، فإني أمُتُّ بخدمتي رسول الله، وصحبتي إياه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
فقرأ عبد الملك الكتاب وهو يبكي، وبلغ به الغضب ما شاء الله، ثم كتب إلى الحجّاج بكتاب غليظ ، فبعث عبد الملك إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر ـ وكان مصادقاً للحجّاج ـ فقال له: دونك كتابيَّ هذين فخذهما، واركب البريد إلى العراق، وابدأ بأنس بن مالك صاحب رسول الله ﷺ، فادفع كتابي إليه وأبْلغه مني السلام، وقل له: يا أبا حمزة قد كتبت إلى الحجّاج الملعون كتاباً، إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك.
وكان كتاب عبد الملك إلى أنس بن مالك: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الملك بن مروان إلى أنس بن مالك خادم رسول الله ﷺ، أما بعد؛ فقد قرأت كتابَك وفهمت ما ذكرت من شكايتك الحجاج، وما سلطته عليك ولا أمرته بالإساءة إليك، فإن عاد لمثلها فاكتب إليَّ بذلك أُنزل به عقوبتي، وتَحْسُن لك معونتي والسلام. فلما قرأ أنس كتابه وأُخبر برسالته قال: جزى الله أمير المؤمنين عنِّي خيراً، وعافاه وكفاه وكافأه بالجنة، فهذا كان ظني به والرجاء منه .
كتاب عبد الملك إلى الحجّاج: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى الحجّاج بن يوسف، أما بعد: فإنَّك عبد طمَتْ بك الأمور فسموت فيها، وعدوت طورك، وجاوزت قدرَك، وركبت داهية إدَّاً، وأردت أن تَبُورني ، فإن سوَّغتكها مضيت قُدماً، وإن لم أُسوغها رجعت القهقرى، فلعنك الله عبداً أخفش العينين، منقوص الجاعرتين ، أنسيت مكاسب ابائك بالطائف، وحفرهم الابار ونقلهم الصخور على ظهورهم في المناهل؟ يا بن المستفرمة بعجم الزبيب والله لأغمزنك غمز الليث الثعلب، والصقر الأرنب، وثبت على رجل من أصحاب رسول الله ﷺ بين أظهرنا، فلم تقبل له إحسانه، ولم تجاوز له إساءته، جُرأة منك على الربِّ عز وجل، واستخفافاً منك بالعهد ! والله لو أنَّ اليهود والنصارى رأت رجلاً خدم عُزير بن عزرَا، وعيسى ابن مريم لعظمته وشرَّفته وأكرمته، فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله ﷺ ثماني سنين، يطلعه على سرِّه ويشاوره في أمره ؟! ثم هو مع هذا بقية بقايا أصحابه، فإذا قرأت كتابي هذا فكن أطوع له من خُفه ونعله، وإلا أتاك مني سهم مثكلٌ ، بحتفٍ قاضٍ، ولكل نبأٍ مستقر وسوف تعلمون .
ولما علم الحجّاج بأن عبد الملك غاضباً عليه استوى جالساً مرعوباً، ولما قرأ الكتاب اعتذر لأنس ولم يزل مكرماً له حتى مات ، وكتب الحجّاج خطاباً يعتذر فيه عما حدث منه في حق أنس .
11 ـ محاربته للمداهنة والنفاق بين الناس:
لم يكن عبد الملك يسمح لأحد أن يداهنه، أو ينافقه، أو يضيع وقته فيما لا يفيد، فقد طلب رجلٌ من عبد الملك أن يخلو به، فأمر من عنده بالانصراف، فلما أراد الرجل أن يتكلم بادره عبد الملك قائلاً: احذر في كلامك ثلاثاً، إياك أن تخدعني، فأنا أعلم بنفسي منك، أو تكذبني فإنه لا رأى لكذوب، أو تسعى إليّ بأحد من الرعية، فإنهم إلى عدلي وعفوي أقرب منهم إلى جوري وظلمي .
12 ـ مفهوم السياسة عند عبد الملك:
أدرك الخليفة عبد الملك معنى السياسة بشكل دقيق، واستوعب دروسها، كما أدرك السبل العملية لسياسة الناس ومن مختلف منازلهم؛ فحين سأله الوليد وقال: يا أبت ما السياسة ؟ قال: هيبة الخاصة مع صدق مودتها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف، واحتمال هفوات الصنائع .
13 ـ سيرة أبي بكر وعمر ورعيتهما:
قال عبد الملك: أنصفونا يا معشر الرعية ! تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر ؟! نسأل الله أن يعين كلاَّ على كلٍّ، إني رأيت سيرة السلطان تدور مع الناس، فلا بد للوالي أن يسير في كل زمان بما يصلحه، وهذا الكلام لا يسلم له به على إطلاقه، لأن السلطان المطلوب منه أن يسير مع القران الكريم وهدي النبي ﷺ وسيرة الخلفاء الراشدين، ويعمل على نشر سير الصالحين ويقتدي بهم، لا أن ينهي عن ذكر عمر ويقول . .. فإنه مرارة للأمراء، مفسدة للرعية .
والحقيقة تقول: إن الأمراء في العهد الأموي الكثير منهم لا يستطيع أن يقتفي أثر عمر ولا أن يسير بسيرته، فيحز ذلك في نفوسهم، ويترك الحسرة والمرارة في قلوبهم، وأما الرعية فإنهم يسرعون إلى المقارنة بين ما هم فيه، وبين ما كان عليه الناس في عهد عمر، وما كانوا يتمتعون به من العدل والمساواة، والحرية والتمتع بكل حقوق الإنسان، فيدفعهم ذلك إلى التمرد على أمرائهم، والسخط على أوضاعهم، وعدم الرضا بما هم فيه ، وأمثال عبد الملك يريد الأمور أن تستقر على منهاج الملك العضوض، وأما منهاج الخلافة الراشدة فيضيق عليه الخناق، وفي الحقيقة: إن سوء حال الحكم في مجتمع ما كان ذلك لنقص في الراعي والرعية معاً ، كما أن العودة إلى صفاء الحياة في عصر الخلفاء الراشدين ليس أمراً مستحيلاً، ولكن لا يأتي به الحاكم وحده وإن صلحت نيته، وعظمت عزيمته، بل لابد من تحقيق ذلك القدر من التوافق بين الراعي والرعية، حيث يتعاون الجميع على تحقيق ذلك المجتمع الطيب، وطريق ذلك طويل وشاق، ويحتاج ربما إلى أجيال من الدعاة والحكام الذين يبذلون جهدهم لتربية الرعية على معاني الإيمان، ويعطون في ذلك القدوة والمثل، ويستفرغون في ذلك وذاك وقتهم وجهدهم .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022