من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج1)
(إدارة الأقاليم في عهد الخليفة عبد الملك)
الحلقة: 115
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ ديسمبر 2020
عندما تولى الخلافة عبد الملك بن مروان (73 ـ 86 هـ) قام بتنظيم دواوين الدولة ومؤسساتها، كما قام بتنظيم إدارة الأقاليم، وأعاد النظر في تقسيمها وترتيبها، اخذاً بنظره تغير الحياة وتطورها بمختلف أوجهها، وكانت الدولة الأموية مقسمة إلى عدة أقاليم، ويرأس كل إقليم أمير، يكون تعيينه وعزله من الخليفة، ويملك هذا الأمير سلطات واسعة في إدارة إقليمه، فهو الذي يعين العمال على الولايات والمدن التابعة لإقليمه، كما يعين الموظفين أيضاً، وهو المسؤول عن تنظيم الجند، وتجهيز الحملات العسكرية، وغالباً ما يقودها بنفسه أو ينيب عنه قائداً لذلك، وكان له الإشراف على سك النقود أيضاً، وكان بجانب الأمير موظف له أهمية كبيرة هو صاحب الخراج، فالوالي يدير الشؤون السياسية للولاية، وعامل الخراج يتولى إدارة الشؤون المالية، ويكون صاحب الخراج بمثابة الرقيب على الوالي، ويُعين صاحب الخراج هذا من قبل الخليفة، وقد تحصل مواجهة وتصادم بين الوالي وصاحب الخراج، وكذلك كان يساعد الأمير في عمله عدد من الموظفين؛ منهم: القاضي، وصاحب الشرطة، ورئيس الحرس، والكاتب، والحاجب .
وقد بلغت الدولة الإسلامية في العهد الأموي أقصى اتساعها، وكانت مقسمة إدارياً في عهد عبد الملك إلى أقاليم كبرى؛ هي:
1 ـ بلاد الشام العاصمة للدولة:
وكانت بلاد الشام في عصر الخليفة عبد الملك بن مروان قد استقرت إدارياً إلى خمسة أجناد؛ وهي: جند دمشق، وحاضرتها دمشق، وجند حمص، وحاضرتها حمص، ومن مدنها تدمر، وجند قنسرين، وحاضرتها قنسرين، ومن مدنها حلب ومرعش، وجند فلسطين، وحاضرتها اللد، ومن مدنها تبوك، وجند الأردن، وحاضرتها طبرية، ومن مدنها عكا ، وكان لنظام الأجناد هذا أهمية إدارية وعسكرية كبيرة، إذ كان من أهم أسباب قوة الدولة الأموية، فقد كان الجند مستعدين دوماً للقضاء على أعداء الدولة في الداخل، والخارج ، ولم يعين عبد الملك والياً خاصاً على بلاد الشام، لأنها كانت تحت إشرافه المباشر، إلا أنه عين على الأجناد ولاة خاصين بها، وكان جند دمشق يقع تحت إدارة عبد الملك مباشرة بوصفها حاضرة الدولة الأموية .
2 ـ إدارة الحجاز وأواسط الجزيرة العربية واليمن:
أ ـ الحجاز: في سنة 73 هـ حدث تطور إداري مهم، إذ جمع الخليفة عبد الملك أعمال الحجاز واليمن للحجّاج بن يوسف الثقفي ، فكان الحجّاج يستخلف على المدينة إذا أتى مكة عبد الله بن قيس بن مخرمة الذي ولاه قضاء المدينة، وقد أدرك عبد الملك أهمية الحجاز المعنوية والمؤثرة، فانتهج لذلك سياسة حكيمة، فقد أحسن إلى الناس واستجاب لطلبهم في عزل الحجّاج عن الحجاز، أدت بالتالي هذه السياسة إلى نجاحه في الحصول على بيعة كبار أهله، وفي سنة 75 هـ نقل عبد الملك بن مروان الحجّاج من الحجاز وولاه العراق .
ثم ولى الخليفة عبد الملك بعد ذلك على المدينة عمه يحيى بن الحكم بن أبي العاص، ثم عين أبان بن عثمان سنة 76 هـ، وفي عام 82 هـ عزل الخليفة أبان بن عثمان عن ولاية المدينة، وقيل: سنة 83 هـ، وولى مكانه هاشم بن إسماعيل المخزومي ، فبقي في منصبه حتى وفاة الخليفة عبد الملك .
ومن الجدير بالملاحظة أن الولاة الذين عينهم الخليفة عبد الملك بن مروان على المدينة إما من أفراد الأسرة الأموية، أو ممن لهم صلة عائلية بالأسرة؛ مثل: هشام بن إسماعيل المخزومي، ويبدو أن هذا الاختيار كان الهدف منه ضمان الولاء والإخلاص التامَّين للخليفة، لاسيما أن المدينة كانت من مراكز المعارضة القوية للأمويين .
ب ـ مكة: بعد مقتل ابن الزبير ولى الخليفة ابنه مسلمة بن عبد الملك والياً عليها، وفي السنة نفسها جمع عبد الملك الحجاز وأعماله واليمن للحجّاج حتى سنة 75 هـ، ثم ولى مكانه الحارث بن خالد المخزومي ، ولابد من القول أنه تعاقب على مكة ولاة تختلف المصادر في تسميتهم وسني حكمهم، وربما يرجع ذلك إلى كثرة عددهم من جهة، وإلى قصر فترة ولاية بعضهم من جهة أخرى . وكان عبد الملك يعتني بتعمير الكعبة والمحافظة على سلامتها، وكان يبعث إليها بالهدايا والديباج كل سنة .
جـ أواسط الجزيرة العربية: كانت أهم مناطقها اليمامة، وكانت اليمامة منذ سنة 65 هـ مقراً لنجدة الحنفي زعيم فرقة النجدات الخارجية ، والذي بدأ تحركاته العسكرية منطلقاً من اليمامة حتى تمكن من تأسيس دولة النجدات في اليمامة والبحرين، وقد حاول عبد الملك استخدام الأساليب الدبلوماسية مع نجدة؛ إذ وعده أن يوليه على اليمامة مقابل الدخول في طاعته ، فكان هذا أحد أسباب انشقاق النجدات بعد ذلك، إلا أن اليمامة ظلت خارج سيطرة الدولة الأموية حتى تمكن الخليفة عبد الملك من القضاء على دولة النجدات في اليمامة والبحرين سنة 73 ه ، فولى عليها عبد الملك يزيد بن هبيرة المحاربي ثم عزله وولى مكانه إبراهيم بن عربي، وبقي الأخير إلى أن مات عبد الملك .
د ـ اليمن: وفي عهد عبد الملك بن مروان أصبح لليمن والٍ واحد بعد أن كانت مقسمة إلى عدة عمال في الحقب السابقة ، ومن أشهر ولاة عبد الملك على اليمن محمد بن يوسف الثقفي، وهو أخو الحجّاج بن يوسف، وظل محمد على ولاية اليمن إلى ما بعد وفاة الخليفة عبد الملك بن مروان ، ومحمد بن يوسف لم يحسن السيرة مع أهل اليمن، كما أنه زاد ضريبة الخراج على الأراضي الزراعية
3 ـ إدارة العراق والمشرق الإسلامي:
أ ـ العراق:
وجه الخليفة كل اهتمامه نحو العراق، واستطاع أن ينزع الحكم من مصعب بن الزبير، سنة 72 هـ، وبايعه أهل الكوفة، وأحسن إلى زعمائها، وولى عليها أخاه بشر بن مروان وأمره باللين لأهل الطاعة، والشدة على أهل المعصية ، وفرق العمال على المدن، أما البصرة فقد ولّى عليها خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد الذي فشل في قتال الخوارج في البحرين والعراق، فعزله عبد الملك، وجمع العراق لبشر بن مروان، فقدم البصرة سنة 74 هـ، واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث المخزومي، فأقام بشر بالبصرة شهراً ثم مات ، ثم أسند عبد الملك ولاية العراق إلى الحجّاج إلى أن مات الخليفة عبد الملك .
ب ـ الولايات التابعة للعراق في شرق الجزيرة العربية:
كانت الأجزاء الشرقية من شبه الجزيرة العربية، والمطلة على بحر الخليج، تابعة إدارياً في العصر الأموي إلى أمير العراق، وهو الذي يعين عليها ولاة يتولون إدارتها، وأهم هذه الأقاليم هي: البحرين، وعمان، وتشمل البحرين الإقليم الممتد على ساحل الخليج العربي، بين البصرة وعمان؛ فهو يشمل ما نعده اليوم: الكويت والإحساء وقطر وجزر البحرين الحالية المعروفة قديماً باسم (أوال) ، ودولة الإمارات العربية المتحدة .
جـ خراسان والمشرق الإسلامي:
بعد أن تمكن عبد الملك من قتل مصعب وضم العراق عام 72 هـ، بدأ يخطط لاسترجاع خراسان، ونجح في ذلك، وفي عام 78 هـ ضم عبد الملك ولاية خراسان، وسجستان وكل المشرق الإسلامي إلى ولاية العراق للحجّاج بن يوسف، فولى الحجّاج على خراسان (المهلب بن أبي صفرة) سنة 79 هـ .
ويبدو أن نجاح الدولة في القضاء على كل منافسيها في الداخل، وجه الاهتمام بجهاد العدو في الثغور، فكانت خراسان بحاجة إلى رجل عسكري قوي كالمهلب يمكن أن يحقق أهداف حركة الجهاد هناك، ومما يؤكد ذلك بقاء المهلب في ولايته حتى وفاته، كما يمكن اعتبار هذا التعيين بمثابة تكريم لجهوده في القضاء على الخوارج الأزارقة، وفي ولاية المهلب هذه نشطت حركة الفتوحات، وسيأتي الحديث عنها عند كلامنا عن الفتوحات في عهد عبد الملك.
وعين الحجّاج على سجستان عبيد الله بن أبي بكرة، وذلك سنة 78 ه ، وكتب عبد الملك إلى الحجّاج: لا تستعمل عبيد الله بن أبي بكرة على الخراج والجباية فإنه أريحي ، وهذا يعني أن الحجّاج أصبح هو الذي يعين الولاة على الأقاليم التابعة لولايته كخراسان وسجستان في الغالب، وهي جزء من سياسة عبد الملك في الاتجاه نحو اللامركزية الإدارية .
4 ـ إدارة الجزيرة الفراتية وأرمينية وأذربيجان:
تقع الجزيرة الفراتية بين نهري دجلة والفرات، وتشتمل على: ديار ربيعة، وديار مضر، وديار بكر، وتمتد على نهر الفرات من شمال ملقية بمسيرة يومين شمالاً إلى الأنبار جنوباً، وعلى دجلة من تكريت جنوباً إلى شمال جزيرة ابن عمر شمالاً ، وتقع أرمينية وأذربيجان إلى الشرق والشمال الشرقي للجزيرة الفراتية ، وكانت الموصل في عهد عبد الملك جزءاً من ولاية الجزيرة الفراتية ، وقد أدرك عبد الملك أهمية الجزيرة هذه فعمل جاهداً على تنظيمها لتقف بمواجهة الخزر والبيزنطيين أعداء الدولة، فشجع على استيطان العرب هناك وأقطعهم الأراضي ، وأمر بنقل بعض القبائل القيسية إلى هناك ، كما نقل بعضاً من قبائل الأزد وربيعة من البصرة إلى الموصل وحديثة، كما نظم الإدارة فيها، حيث فصلها عن قنسرين وجعلها ـ فضلاً عن أرمينية وأذربيجان ـ إقليماً إدارياً مستقلاً ، ولأهميتها فقد عين على إدارتها أخاه محمد بن مروان سنة 73 هـ، والذي يعتبر من أقدر الولاة الأمويين، وأوكل عليها مهمة مقاتلة الأعداء من البيزنطيين والخزر، والقيام بفتح المناطق المحاذية للجزيرة .
وكانت هذه الولايات الجزيرة، وأرمينية، وأذربيجان ـ فضلاً عن الموصل ـ غالباً ما تجمع تحت إمرة أمير واحد، ولا سيما في عهد عبد الملك بن مروان، ويبدو أن محمد بن مروان هو الذي كان يعين ولاة على أرمينية ، أما الموصل فإن الخليفة عبد الملك بن مروان، هو الذي كان يعين ولاتها في الغالب .
5 ـ إدارة مصر:
كان والي عبد الملك على مصر أخوه عبد العزيز، وقد أوصى عبد الملك أخاه حين ولاه مصر بوصية تنم عن عقلية كبيرة؛ حيث بيَّن له الأسس الناجحة لإدارة ولايته وكيفية اختيار موظفيه، قائلاً له: ابسط بشرك وألف كنفك وأثر الرفق في الأمور؛ فإنه أبلغ بك، وانظر حاجبك، فليكن من خير أهلك.. وإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ بالسلام.. وإذا انتهى إليك مشكل فاستظهر عليه بالمشاورة؛ فإنها تفتح مغاليق الأمور، وإذا سخطت على أحد فأخِّر عقوبته .
ولم تقتصر مسؤولية عبد العزيز الإدارية على مصر فقط، بل امتدت إلى إفريقية أيضاً، فهو المسؤول عن إدارة إفريقية، فقد كان يعين عليها الولاة ويعزلهم في بعض الأحيان، كما فعل حين عزل حسان بن النعمان سنة 78 هـ، وولى مكانه موسى بن نصير ، فأقرّ عبد الملك هذا التعيين، وقد توفي عبد العزيز عام 86 هـ، ودامت ولايته على مصر أكثر من عشرين عاماً .6 ـ إدارة إفريقية:
كانت أوضاع إفريقية الإدارية والسياسية قبل تولي عبد الملك الخلافة مضطربة، نتيجة عدم استقرار الأحوال السياسية في الحجاز والعراق خاصة، فارتد عن الإسلام قسم من البربر في إفريقية ، كما تمكن كسيلة ومن معه من البربر والروم من دخول القيروان، فسيطر كسيلة على شمال إفريقية ، واستطاع عبد الملك أن يبسط نفوذ الدولة الأموية على شمال إفريقية بعد أن تخلص من الصراعات الداخلية، ومن أشهر ولاة إفريقية في عهد عبد الملك حسان بن النعمان الغساني وموسى بن نصير، وسيأتي الحديث عنهم بإذن الله تعالى في الفتوحات في عهد عبد الملك.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: