السبت

1446-06-27

|

2024-12-28

 

كانت صفة العدل من أبرز صفات صلاح الدين الأيوبي القيادية، وكان يؤمن بأنَّ العدل أحد نواميس الله في كونه، وكان يقينه بأنَّ العدل ثمرةٌ من ثمرات الإيمان، وكان تعلَّم ذلك من أستاذه الكبير ـ الذي جَدَّد معلم العدل، وسار عليه صلاح الدين ـ السلطان نور الدين محمود زنكي، فقد كان صلاح الدين عادلاً، ناصراً للضعيف على القويٌّ، وكان مستنيراً بذلك بالأوامر القرآنية المستفيضة والآمرة بالعدل والموجبة له والمحذرة من عواقب الظلم وترك العدل، كما قال تعالى: {۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ} [النحل: 90]، وأمر الله بفعل كلَّ ما هو معلوم يقتضي وجوبه، قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرا ١٣٥} [النساء: 135] ..

وكان يجلس للعدل في كل يوم إثنين، وخميس في مجلسٍ عام، يحضره الفقهاء، والقضاة، والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين؛ حتى يصل إليه كلُّ أحد من كبيرٍ، وصغير، وعجوز هرمة، وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفراً، وحضراً، على أنَّه كان في جميع أزمانه قابلاً لما يعرض عليه من القصص، كاشفاً لما ينتهي إليه من المظالم، وكان يجمع القصص في كلِّ يوم، ويفتح باب العدل، ولم يردَّ قاصداً للحوادث، و الحكومات، ثم يجلس مع الكاتب ساعةً، إما في الليل، أو النهار، ويوقِّع على كل قصَّةٍ بما يُطلق الله على قلبه، ولم يردَّ قاصداً أبداً، ولا منتحلاً، وطالب حاجة، وهو مع ذلك دائم الذكر، والمواظبة على التلاوة، ولقد كان رؤوفاً بالرعيَّة، ناصراً للدين، مواظباً على تلاوة القران العزيز، عالماً بما فيه، عاملاً به، لا يعدوه أبداً، رحمة الله عليه! وما استغاث إليه أحد إلا وقف، وسمع قضيته، وكشف ظلامته، وأخذ قصَّته.

ولقد اشتغاث إليه إنسان من أهل دمشق، يقال له: ابن زُهير على تقي الدِّين ـ ابن أخيه ـ فأنقذ إليه ليحضره إلى مجلس الحكم، فما خلَّصه إلا أن أشهد عليه شاهدين معروفين مقبولي القول: أنَّه وكَّل القاضي أبا القاسم أمين الدِّين ـ قاضي حماة ـ في المخاصمة، والمنازعة، فحضر الشاهدان، وأقاما الشَّهادة بعد دعوى الوكيل الوكالة الصَّحيحة، وإنكار الخصم (سيرة السلطان الناصر لابن شدَّاد ص66)، قال القاضي ابن شدَّاد. فلما ثبتت الوكالة؛ أمرت أبا القاسم بمساواة الخصم فساواه ـ وكان من خواص السُّلطان ـ رحمه الله ـ ثم جرت المحاكمة بينهما، واتجهت اليمين على تقي الدِّين، وانقضى المجلس على ذلك، وقطعنا عن إحضاره دخول اللَّيل، وكان تقي الدِّين من أعز الناس عليه، وأعظمهم عنده، ولكنه لم يُحابه في الحق.

وممَّا يدل على عدله: أنه كان يقف بجانب خصمه أمام القضاء دون أن يرى في ذلك جرحاً، أو غضاضة؛ لأن الحق في نظره أحقُّ أن يتَّبع. وقد حدث أن أدعى تاجرٌ يدعى (عمر الخلاطي) على صلاح الدين: أنَّه أخذ منه أحد مماليكه، ويدعى «سنقر» واستولى على ما كان لهذا المملوك من ثروةٍ طائلةٍ بدون وجه حقٍّ، وعندما تقدَّم التاجر المدَّعي بظلامته إلى القاضي ابن شدَّاد. وأظهر صلاح الدين حلماً كبيراً، ورضي أن يقف موقف الخصم من صاحب الدَّعوى، وأحضر كلٌّ من الطرفين من لديه من شهود، وما لديه من أدلَّة يثبت بها رأيه، حتى اتضح في النهاية ـ عند القاضي كذب الرجل، وإدعاؤه الباطل على صلاح الدين، ومع كلِّ هذا رفض صلاح الدين أن يترك المدعي يخرج من عنده خائباً، فأمر له بخلعة، ومبلغ من المال؛ ليدلَّل على كرمه في مواضع المؤاخذة مع القدرة.

ومما يدل على عدله سهره على مصالح الرعية، وإزالته بعض المكوس، والضرائب تخفيفاً عن الناس، ورفعاً للظلم عن كواهلهم، وقد ذكر ابن جبير من مناقب صلاح الدين، واثاره التي أبقاها ذكراً جميلاً للدِّين والدنيا: أنَّه أزال كثيراً من المكوس، والضرائب؛ التي كانت مفروضة على الناس على كلِّ ما يباع، ويشترى مما دقَّ، أو جلَّ؛ حتى كان يؤدى على شرب ماء النيل المكس، فألغى صلاح الدين هذا كلَّه. (رحلة ابن جبير نقلاً عن صلاح الدين لعبد الله علوان ص143)

وقد كانت هناك ضريبةٌ قدرها سبعة دنانير ونصف تفرض على كلِّ حاجٍّ في طريقه إلى الحجاز لتعمير مكة، والمدينة، ومساعدة الناس هناك، وقد اشتطَّ الفاطميون في جمع هذه الضرائب، ومن يعجز عن دفعها يعذب عذاباً أليماً، ولكن صلاح الدين ألغى ذلك المكس، واستعاض عنه معونةً مالية تعادل قيمة ما يؤخذ من الحجاج تدفع كلَّ عامٍ لأهل الحجاز، وبذلك أراح الحجَّاج من عنت الجباة، ولا سيما أنَّ نسبةً كبيرة منهم كانوا فقراء، لا يستطيعون دفع ما يؤخذ منهم، فكفى الله المؤمنين على يدي هذا السلطان العادل حادثاً عظيماً، وخطاباً أليماً.

إنَّ العدل أشرف أوصاف الملك، وأقوم لدولته؛ لأنه يبعث على الطاعة، ويدعو إلى الألفة، وبه تصلح الأعمال، وتنمي الأموال، وتنتعش الرعية وتكمل المزيَّة، وقد ندب الله عزَّ وجلَّ الخلقءْ ليه، وحثهم عليه. (صلاح الدين لعبد الله علوان ص144).

 

 

_______________________________________________

المصدر:

  • ملاحظة: استقى المقال مادته من كتاب” صلاح الدين الأيوبي”، للدكتور علي الصلابي، واستفاد المقال كثيراً من معلوماته من كتاب: “صلاح الدين الأيوبي” لعبد الله علوان.
  • سيرة السلطان الناصر، لابن شدَّاد.
  • رحلة ابن جبير نقلاً عن صلاح الدين، لعبد الله علوان ص143.
  • صلاح الدين الأيوبي،  عبد الله علوان.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022