الأسس والركائز الضرورية التي تقوم عليها دولة المواطنة (2)
د. علي محمد الصلابي
جريدة البصائر الجزائرية
رجب ١٤٤٣ه/ مارس ٢٠٢٢م
من الركائز الأساسية التي تقوم بها دولة المواطنة: الشورى: لن يشعر الإنسان بأنه «مواطن» أي: جزء لا يتجزأ من الوطن الذي ينتمي إليه؛ إلا إذا شعر أن أمر هذا الوطن، وأمر مواطنيه لا ينفرد بتقريره فرد واحد
يستبد به، أو حتى فئة بعينها، وإنما يتحقق الشعور بالانتماء وبالمواطنة بقدر ما يشعر المواطن أن الأمر شورى بين أهل الاختصاص، فإن كان الشأن أمراً سياسياً، فيكون شورى بين القوى والتنظيمات السياسية، التي لابد أن تقوم، وإن كان الأمر عسكرياً، فلهذا الأمر أهله واختصاصيوه؛ الذين يتشاورون فيما بينهم فيما يجب أن يكون عليه الأمر، وهكذا في مختلف ما يتصل بمجموع أهل الوطن.
وقد أوجب الله عز وجل الشورى على الأمة في ايتين ورد فيهما النص صريحاً على وجوب اتباع هذا المبدأ.
فالنص الأول: في صورة أمر للرسول (ص)، ومن ثم تكون أمته من باب أولى مأمورة به.
والثاني: يبين أن من صفات المؤمنين الأساسية أنهم يتصرفون في الأمور، ويقررون الآراء بالتفاهم، والمشاركة، وتبادل الرأي، أي: بالشورى.
أما الآية الأولى، فهي قوله سبحانه: َ {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ *} [آل عمران: 159].
والمقصود بالأمر هذا هو أمر الحرب، ونحوه، مما لم ينزل عليه فيه وحي، لتستظهر برأيهم، ولما فيه من تطييب نفوسهم، والرفع من أقدارهم، وعن الحسن البصري: قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة، ولكنه أراد أن يستن به من بعده، وعن النبي (ص): «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم»، وعن أبي هريرة: «ما رأيت أحداً أكثر مشاورة من أصحاب رسول الله (ص)» (تفسير الزمخشري، 1/474)
وأما الآية الثانية: فقد جاءت في سياق وصف الله لعباده المؤمنين، في قوله سبحانه وتعالى: َ {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ *وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ *} [الشورى: 36 ـ 39] .
ومن هنا يصبح بيّناً أن الحاكم ـ وقد وجبت عليه الشورى ـ يجب عليه أن يلتزم بنتيجتها التي ينتهي إليها رأي أكثر المشيرين، وأنه لا دليل يصح الاستناد إليه في تأييد من ذهب إلى أن الشورى معلمة، وليست ملزمة، وإنما الذي تدل عليه الأدلة جميعاً ـ من فعل رسول الله (ص) وصاحبيه ـ أن الشورى متى انتهت إلى رأي وجب على الإمام، أو الحاكم تنفيذه. (المواطنة في الإسلام ، د. سعيد إسماعيل ص، 197)
ومن الجدير بالذكر أن فعل رسول الله (ص) في الخروج في غزوة أحد لقتال المشركين خارج المدينة أصبح واضح الدلالة على هذه القاعدة، وعلى قاعدة التزام رأي الأكثرية، ولو خالف رأي الحاكم أو رأي غيره من أولي الرأي.
والواقع أن الشورى لن يكون لها معنى إذا لم يؤخذ برأي الأكثرية، ووجوب الشورى على الأمة الإسلامية يقتضي التزام رأي الأكثرية، وأن تنفيذه بإخلاص باعتباره الرأي الذي يجب اتباعه، ولا يصح اتباع غيره، وليس للأقلية أن تناقش في رأي وُضِعَ موضعَ التنفيذ، وتلك سنة رسول الله (ص) التي سنها للناس، والتي يجب على كل مسلم اتباعها.
وإذا كان بعض السلف قد عرَّفوا الشورى بأنها مذاكرة أهل الرأي في الأمر، ثم اتباعهـم، فإن التعريـف العصـري لهـا هـو: اتخـاذ القـرارات فـي ضوء
المتخصصين في موضوع القرار في كل شأن من شؤون الأمة.
ويجب النظر إلى الشورى من وجهة نظر شمولية يتفرع عنها ثلاثة مبادئ مهمة:
_ أنها الأساس الشرعي لحق الأمة في تقرير مصيرها، واختيار حُكامها، ووضع دستور الحكم المتضمن لحدود ولاية السلطات، وقواعد عملها وسيرها، وهو ما يقابل «السلطة التأسيسية» في الفقه الحديث، أي: سلطة وضع الدستور، فهو مبدأ تأسيسي.
_ أنها الأساس الشرعي الذي يقوم عليه نظام المجتمع حتى قبل وجود الدولة والحكومة، أي: أنها أساس ما يسمى بـ «العقد الاجتماعي» في الفقه الأوربي، فهي مبدأ اجتماعي عام وشامل لكل شؤون المجتمع.
_ أنها تلزم الحكام باحترام قرارات الأمة الصادرة منها، أو ممثليها بالشورى الحرة في رقابتهم على الحكام أثناء ممارستهم لسلطاتهم ـ سواء حصلوا عليها بالشورى أم بالقوة ـ وهذه هي شورى الرقابة على الحكام، وهي هنا مبدأ دستوري.
وإذا كانت هناك أمم وشعوب قد توصلت إلى مجموعة اليات، من شأنها تطبيق مبدأ الشورى، فليس هناك ما يمنع من الأخذ بها. (المواطنة في الإسلام، د. سعيد إسماعيل ص، 198)
ومن هنا نأخذ من الديمقراطية أساليبها، والياتها، وضماناتها التي تلائمنا، ولنا حق التحوير والتعديل فيها، ولا نأخذ فلسفتها؛ التي يمكن أن تُحلل الحرام، أو تُحرم الحلال، أو تُسقط الفرائض.
_ الاستناد إلى مشروعية الانفتاح الحضاري على الثقافات الأخرى، والتفاعل معها على قاعدة مرجعية القران الكريم، والسنة النبوية في رفض أو قبول المفاهيم والاليات المستجدة.
_ التعامل مع الاليات الديمقراطية بوصفها اليات محايدة لا تستبطن أي خلفية مذهبية، أو عقائدية.
_ ربط الاليات الديمقراطية بمفاهيم إسلامية مركزية ذات دلالات سياسية، مثل الإمامة، «بمعنى رئاسة الدولة ـ «أيَّاً كان نظام الحكم» ـ الإسلامية التي تعطي الجماعة البشرية حق حكم نفسها بنفسها، ومفهوم حرية الإنسان في تقرير مصيره، واختيار أحد النجدين، ونفي إمكانية الإكراه في الدين، وتوفر هذه المفاهيم وما يجري مجراها، جسور ربط واقعية بين الاليات الديمقراطية والمجتمع الإسلامي؛ الذي يؤمن بهذه المقولات.
_خ إيجاد رابطة إجرائية بين الشورى الإسلامية بوصفها إحدى القيم العليا للمجتمع الإسلامي؛ التي لم يحدد الإسلام شكلها، وطريقتها، وأسلوب تنفيذها وتطبيقها والاليات الديمقراطية باعتبارها أدوات ووسائل ممكنة، وجائزة لتطبيق الشورى في حياة الناس عامة، والمسلمين خاصة.
ومن أهم الفوارق بين الديمقراطية وبين الشورى التي تقوم عليها النظرية السياسية الإسلامية قولنا: إن سلطة الأمة في الديمقراطية الغربية سلطة مطلقة، بينما هي في التصور الإسلامي مطلقة في نطاق، ومقيدة في نطاق اخر، فحيثما وجد النص التشريعي القطعي؛ فلا موضع لاجتهاد فردي أو جماعي، إلا أن يكون اجتهاداً في التطبيق والتفسير، وفي كيفية إنزال حكم القاعدة الملزمة على الوقائع المتجددة، والظروف المتغيرة، وهو مجال لا يستهان به.
ومن أركان قيام دولة المواطنة: محاسبة الحاكم ومساءلته، فلا بد للحاكم أن يكون مقابل التزامه بالشريعة، وتقيده بالشورى، وتحمله للمسؤولية، من حقوق تجاه الشعب، ومن واجب الشعب تجاهه؛ ليتمكن من إحقاق الحق، وتأمين الأمن، وإقامة العدل، والدفاع عن الأمة، وأرضها ودينها، هذا الحق الذي له الواجب الذي على الناس هو الطاعة لأوامر السلطة في حدود الشريعة والمصلحة العامة، كما قال أبو بكر الصديق: أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم، وفي الحديث النبوي: «لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف» (المواطنة في الإسلام، د. سعيد إسماعيل ص، 200).
وعلى هذا يمكن القول: إن التزام المواطن بأوامر السلطة السياسية، واحترامه لقراراتها وطاعته إنما يتوقف على توافر شروط أساسية، منها:
- أن يكون الإسلام هو مرجعية الدولة، وأساس نظامها الشرعي.
- أن يكون الحاكم قد تسلم سلطته وفقاً لشروط إسناد السلطة، وطريقتها المقررة إسلامياً، وباشرها طبقاً لمبادئ وقواعد التعامل السياسي الإسلامي، وهذا يعني أنه لابد من:
_ توافر صفات الاجتهاد، والتقوى، والكفاءة السياسية كمؤهلات لإسناد السلطة.
_ إجراء البيعة، وتحقق الرضا الشعبي في إسناد السلطة.
_ استمرارية الصفات الشخصية التي رُشح الحاكم بموجبها للسلطة، والتزامه بالشرعية العليا.
_ التزام الحاكم بمبادئ قواعد التعامل السياسي من عدل، ومساواة،
وحماية للحقوق والحريات العامة، وخضوع للمساءلة، ونحو ذلك في كل ممارساته الداخلية والخارجية، هذه من أهم ركائز دولة المواطنة.
وأما ركائز مفهوم المواطنة في الفكر والأيديولوجيا الليبرالية، فإنه يرتكز على مفاهيم ثلاثة، وهي:
أ ـ الفردية:
حيث المواطنة هي فكرة حقوقية تمنح الأفراد ـ بوصفهم القيمة الأعلى في المجتمع ـ حقوقاً أساسية كالحق في الحياة والحرية والملكية، وتضعهم قبل المجتمع وقبل الدولة.
ب ـ المساواة:
أما ثاني تلك المفاهيم فهو المساواة، حيث المواطنة تعبير في حالة التساوي بين كافة أفراد الدولة في الحقوق والالتزامات، وأمام القانون، بالإضافة إلى التساوي في الحصول على الفرص، وفي السعي نحو تحقيق السعادة، فالكل سواء في إنسانيتهم، وفي عضويتهم داخل الجماعة السياسية.
ج ـ المشاركة:
وأما ثالث تلك المفاهيم في المشاركة، حيث المواطنة تعبر عن المساهمة في إدارة الدولة التي هي من صنع الأفراد، فالمواطنة هنا جزء من النظرية الديمقراطية؛ التي تجعل من كل مواطن حاكماً ومحكوماً في الوقت نفسه، ولا تتحقق المواطنة، كعضوية للجماعة السياسية، إلا عن طريق مشاركة المواطن في حكم دولته.
ومن هنا يمكننا أن نقول: إن مفهوم المواطنة ـ من خلال تلك الركائز الثلاث ـ إنما هو وسيلة لصنع الية ديمقراطية فعَّالة تكون قادرة على منح كل فرد في الدولة حقوقه الأساسية، وفي الوقت نفسه تكون قادرة على دفع هذا الفرد إلى أداء التزاماته السياسية داخل الجماعة بكفاءة واستمرارية؛ مما يضمن نجاح تطبيق المنظومة الديمقراطية القائمة على حكم الشعب لنفسه.
المراجع:
• تفسير الكشاف، محمود بن عمر الزمخشري.
• المواطنة في الإسلام، سعيد إسماعيل، ص 197- 202.
• المواطنة والوطن في الدولة الحديثة، د. علي محمد الصلابي، ص 296- 299.