تأملات في الآية الكريمة
{قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 186
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1444ه/ يناير 2023م
{قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ}: أي بقدرتي على الإحياء بعد الموت، ولا شكّ أنه تعالى يعلم إيمان إبراهيم - عليه السّلام - ولكنه أراد أن يُظهر علمه للناس على لسان إبراهيم(1).
ونلاحظ في سؤال الله عزّ وجل لإبراهيم التلطّف من الربِّ الكريم الودود الرحيم مع عبده الأواه الحليم المنيب(2).
{قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}: أي: بلى. أنا مؤمن بالقدرة على إحياء الموتى ولستُ شاكّاً بذلك، {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}: أي مشاهدته لتجربة عملية حول إحياء الله للموتى، لا توجد ولا تنشئ الإيمان في قلبه ولكنها تزيده وتقوّيه، وهذه الزيادة لإيمانه زيادة للطمأنينة في قلبه(3).
يُريد إبراهيم - عليه السّلام - أن يجمع التجربة العملية إلى الإيمان النظري، إنّه يريد أن يرى بعينيه كيفية إحياء الله للموتى؛ ليزداد يقيناً، ويريد أن يقوم بتجربة عملية تجري على يديه ليعرف كيفية إحياء الله للموتى.
ويُكثر إبراهيم - عليه السّلام - من استخدام "وسائل الإيضاح"؛ لتأكيد الحقائق النظرية ويؤدي التجارب العملية لترسيخ القناعة النظرية، رأينا هذا عندما أبطل كون الكواكب آلهة أمام قومه، وعندما طلب من الملك الكافر تغيير حركة ومسار الشمس، وعندما حطّم أصنام قومه، وترك الصنم الكبير ليسأله قومه ويعجز عن الجواب، إننا نرى الآية صريحة في نفي الشكِّ عن إبراهيم - عليه السّلام -(4).
إنَّ هذه الآية الكريمة بيّنت طلب إبراهيم - عليه السّلام - من ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى، وعندما سأله {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} وهو يعلم إيمانه سبحانه، يقول إبراهيم عليه السّلام: {بَلَى}، وهذه الكلمة - كما نعلم - تدلُّ على الإيجاب، أي: "بلى قد آمنت"، ولكن ليطمئن قلبي، وطمأنينة القلب لا تعني الشكِّ والارتياب، وإذا استعرضنا بعض الآيات التي ذكرت فيها الطمأنينة، نجد أن الذين نزلت فيهم لم يكونوا شاكّين أبداً، فمثلاً قول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} ]آل عمران:126[، وهذا خطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين الصادقين، أفيمكننا أن نتهم أولئك بالشكِّ، وإنَّ قضية الطمأنينة لا تدلُّ من قريب ولا بعيد على شكٍّ يساور النفوس أو القلوب(5).
ونحن نعلم أنَّ الإيمان يمكن أن يزيد أو ينقص من جهات ثلاث، والذي يهمنا إحدى هذه الجهات وهي الأدلة، فكلما كانت الأدلة أكثر ظهوراً، وأقوى تأثيراً، كلما ازداد إيمان صاحبها " ليس من رأى كمن سمع"، وشتان بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، فكل الذي أراده إبراهيم - عليه الصلاة والسّلام- أن يرى هذا الدليل معاينة، ليطمئن به طمأنينة معاينة ومشاهدة(6).
وإنّ الطمأنينة اعتدال وسكون ووهدوء للقلب، وهي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد(7).
ومما يشهد لذلك خير شهادة، شهادة الله تعالى لإبراهيم - عليه السّلام -: في مثل قوله تعالى: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} ]الأنعام:75[، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ}]الأنبياء:51[، وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}]النحل:120[، ثم شهادة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد جاء في الحديث: "نحنُ أحقُّ بالشَّكِّ من إبراهيمَ"(8)، يا للروعة، يا للعظمة، عظمة النبي صلّى الله عليه وسلّم: نحن أحقُّ بالشكِّ من إبراهيم، إنه نفي بحزم وقوة الشكِّ عن إبراهيم - عليه السّلام -، يقول النبي الكريم محمد صلّى الله عليه وسلّم: إن كان إبراهيم شاكاًّ فنحن أولى بالشك منه، ومع ذلك لم نشك أبداً، فمن الأحرى والأولى أن لا يشكّ إبراهيم - عليه الصلاة والسّلام - ولا أدري كيف يغيب ذلك عن أولئك الذين يسمحون لأنفسهم أن يتهموا إبراهيم بالشكِّ، ولو أن الله تعالى علِم شكّاً من إبراهيم - عليه السّلام - لعاقبه، أو عاتبه، ولكنه مع ذلك يكرمه ويجيبه(9).
مراجع الحلقة السادسة والثمانون بعد المائة:
(1) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (1/390).
(2) في ظلال القرآن، سيد قطب، (1/302).
(3) القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، (1/446).
(4) القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، (1/448).
(5) قصص القرآن الكريم، فضل حسن عباس، ص323.
(6) المرجع نفسه، ص323.
(7) منهج الدعوة إلى العقيدة في ضوء القصص القرآني، منى عبد الله بن داود، ص46.
(8) صحيح البخاري، رقم (3372). وشرح صحيح مسلم، الإمام النووي، (2/183).
(9) قصص القرآن الكريم، فضل حسن عباس، ص324.
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي