تأملات في الآية الكريمة {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 187
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1444ه/ يناير 2023م
لقد استجاب الله لطلب إبراهيم - عليه السّلام - ومنحه التجربة الذاتية المباشرة، وأمره أن يختار أربعة من الطير، فيقربهن ويميلهن حتى يتأكد من هيأتهن ومميزاتهن التي لا يخطئ معها معرفتهن، وأن يذبحهن ويمزق أجسادهن، ويفرّق أجزاءهن على الجبال المحيطة، ثم يدعوهن، فتتجمع أجزاؤهن مرة أخرى، وترتد إليهن الحياة ويعدن إليه ساعيات وقد كان طبعاً، ورأى إبراهيم - عليه السّلام - السرَّ الإلهي يقع بين يديه، وهو السرّ الذي يقع في كل لحظة ولا يرى الناس إلا آثاره بعد تمامه، إنه سرّ هبة الحياة، الحياة التي جاءت أول مرة بعد أن لم تكن، والتي تنشأ مرات لا حصر لها في كل حيٍّ جديد(1).
لقد رأى إبراهيم هذا السرّ يقع بين يديه، طيور فارقتها الحياة وتفرقت، مزقها في أماكن متباعدة، تدب فيها الحياة مرة أخرى وتعود إليها سعياً، كيف؟ هذا السرّ الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه، إنه قد يراه كما رآه إبراهيم، وقد يصدق به كما يصدق به كل مؤمن، ولكنه لا يدرك طبيعته ولا يعرف طريقته، إنَّه من أمر الله والناس لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وهو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه؛ لأنه أكبر منهم وطبيعته غير طبيعتهم ولا حاجة لهم به في خلافتهم، إنّه الشأن الخاص للخالق، الذي لا تتطاول إليه أعناق المخلوقين، فإذا تطاولت لم تجد إلا الستر المسدل على السرِّ المحجوب وضاعت الجهود سدى، جهود من لا يترك الغيب المحجوب لعلّام الغيوب(2).
وفي الوقت نفسه رأى إبراهيم - عليه السّلام - منظراً عجيباً مدهشاً، رأى كيف تتطاير الأجزاء إلى بعضها، وتتلاصق بتناسق وانسجام، ويرجع كل جزء إلى مكانه، وتعود قطرات الدماء المتناثرة إلى موضعها التي كانت فيها عند الذبح، لتستأنف جريانها في عروقها بعد أن أعاد الله تعالى إليها الحياة من جديد، لقد تركتنا الآيات محلقين بخيالنا مع المنظر العجيب المدهش، مع الأعضاء والأجزاء المتناثرة التي تطير في الجوّ إلى بعضها؛ لتتلاحم وتعود كما كانت واستأنفت سيرها في الحياة(3).
كانت الخطوات التي سار عليها إبراهيم - عليه السّلام - ما أرشده إليها ربه:
- الخطوة الأولى: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} من أنواع مختلفة.
- الخطوة الثانية: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أي: أمِلْهن إليك وقرّبهن إليك وتأمل بهن لتعرف أوصافهن لئلّا تلتبس عليك بعد الإحياء.
- الخطوة الثالثة: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} أي: فرّق أجزاءهن بعد ذبحهن وتقطيعهن، وخلط الأجزاء ببعضها على أربعة جبال.
- الخطوة الرابعة: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ} قل لهنّ: تعالين بإذن الله.
- الخطة الخامسة: {يَأْتِينَكَ سَعْيًا} أي: مسرعات بعد أن تنضم الأجزاء المتفرقة إلى بعضها، ويرجع كل جزء إلى موضعه من الجسد بقدرة الله تعالى الكاملة ومشيئته النافذة في ذرات الأجسام، وتعود إليهن الحياة الكاملة، كما كانوا قبل الذبح والتقطيع والتفريق(4).
إنها صورة واضحة متحركة، كأنك ترى إبراهيم - عليه السّلام - وقد أخذ أربعة من الطير، ثم ضمهن إليه، ثم قام بذبحها، وتوزيع أجزائها على الجبال، وهنا قد خرج صوته المبارك في دعوتهن بأن يأتين بإذن الله عزّ وجل، وإذا بالطيور قد سعت إليه سعياً، مقبلة في سرعة، استجابة لدعوة إبراهيم - عليه السّلام - فتزداد الصورة حياة ويزداد المشهد حركة وحيوية منقطعة النظير(5).
مراجع الحلقة السابعة والثمانون بعد المائة:
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، (1/302).
(2) المرجع نفسه، (1/302).
(3) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (1/391).
(4) المرجع نفسه، (1/391).
(5) الأداء الحركي للشخصية في قصص إبراهيم وذويه عليهم السلام في القرآن، فاطمة مستور المسعودي، ص80.
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي