(سؤال إبراهيم عليه السّلام لربّه كيف تحيي الموتى؟)
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 185
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1444ه/ يناير 2023م
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ]البقرة:260[:
1. صلة الآية بما قبلها:
تتصل هذه الآية بما قبلها، باعتبارها الدليل الثالث لإثبات البعث، إذ الدليل الأول هو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} ]البقرة:258[، والدليل الثاني هو قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا..}. فكما أن الله خلق الإنسان في البدء، فهو قادر على إحيائه يوم القيامة، وجاء في القرآن في وصف قدرة الله:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، وقد اهتمَّ القرآن الكريم في ضرب الأدلة العقلية والمنطقية والوجدانية على البعث والحساب والجزاء(1).
ولم يذكر الحق تبارك وتعالى اسم القائل في {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} في الآية السابقة وذكر اسم إبراهيم - عليه السّلام - في هذه الآية، مع أن سياق الآيتين واحد وهو طلب "رؤية كيفية إحياء الموتى"، وهذا من تشريف الله عزّ وجل ورفع مكانة إبراهيم - عليه السّلام -، وكان ذكر إبراهيم في هذه الآية تنويهاً بشأنه وإظهاراً لخلقه، وإعلاماً عن أدبه مع ربّه(2).
2. سبب سؤال إبراهيم عليه السّلام لربِّه:
قال الإمام النووي: أما سؤال إبراهيم عليه السّلام، فذكر العلماء في سببها أوجهاً(3):
- أظهرها: أنَّه أراد الطمأنينة بعلم كيفية الإحياء مشاهدة بعد العلم بها استدلالاً، فإن علم الاستدلال قد تتطرق إليه الشكوك في الجملة بخلاف علم المعاينة، فإنه ضروري، وهذا مذهب الإمام أبي منصور الأزهري وغيره.
- والثاني: أراد اختبار منزلته عند ربّه في إجابة دعائه، وعلى هذا قالوا: معنى قوله سبحانه: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ]البقرة:260[ أي: تصدق بعظم منزلته عندي، واصطفائك وخلّتك.
- والثالث: سأل زيادة يقين، وإن لم يكن الأول شكاًّ، فسأل الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين، فإن بين العلمين تفاوتاً، قال سهل بن عبدالله الشثري رضي الله عنه: سأل كشف غطاء العيان ليزداد بنور اليقين تمكّناً.
- والرابع: أنه لما احتجَّ على المشركين بأن ربّه سبحانه وتعالى يحيي ويميت، طلب ذلك منه سبحانه ليظهر دليله عياناً، وقيل أقوال كثيرة أُخَر ليست بظاهرة(4).
3. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}:
هذه مجاوبة بين ربّ العالمين وخليله إبراهيم عليه السّلام، لقد كان إبراهيم قانتاً لله حنيفاً، وكان غواصاً طالباً للمعرفة يتأمل في كل شيء، ويتقصى بفكره باحثاً وراء الحقيقة، طالباً لها، قال لربه، الذي اتخذه له خليلاً: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} أي بعد أن تتمزق أجسادها وتتفتت(5).
وقد نادى ربه ذلك النداء، فيشير بأنه مُقرّ بأنه خالقه ومربّيه، والقائم على أمره وطلبه وهو طلب الكيفية، فهو مُقر بالأصل مذعن له، خاضع كل الخضوع لحكمه، مؤمن بالبعث والنشور، وأنّ الله سبحانه هو الذي يحيي ويميت، وأنه القاهر فوق عباده، ولكنه يريد أن يعلم بالحسِّ، كما علم بالقول الحق وبالعيان، كما علم بالبرهان(6).
كما أن من سنّة إبراهيم - عليه السّلام - البحث عن إجابات للأسئلة الكبرى؛ بحثاً عن مزيد من الطمأنينة القلبية والعقلية بالإيمان بالله عزّ وجل والبعث وراء قلق الأسئلة في الخاطر والنفس، وقد دعا إبراهيم ربّه بأن يبين له بالرؤية المباشرة كيف هو تعالى يحيي الموتى، وتصل الآية السؤال بالبحث عن تأكيد البعث بالمشاهدة(7).
وتبيّن لنا الآية الكريمة تشوّق إبراهيم - عليه السّلام - إلى ملابسة سرِّ الصنعة الإلهية، وحين يجيء هذا التشوق من إبراهيم الأواه الحليم، المؤمن الراضي الخاشع العابد القريب الخليل، فإنه يكشف عمّا يختلج أحياناً من الشوق والتطلع لرؤية أسرار الصنعة الإلهية في قلوب أقرب المقربين.
إنّه تشوق لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره، وليس طلباً للبرهان أو تقوية للإيمان، إنما هو أمر آخر، له مذاق آخر، إنّه أمر الشوق الروحي إلى ملابسة السرِّ الإلهي أثناء وقوعه العملي، ومذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب.
ولو كان هو إيمان إبراهيم الخليل - عليه السّلام - الذي يقول لربّه ويقول له ربّه، وليس وراء هذا إيمان ولا برهان للإيمان، ولكنه أراد أن يرى يدَّ القدرة وهي تعمل؛ ليحصل على مذاق هذه الملابسة، فيَسْتروح بها ويتنفس في جوّها، ويعيش معها، وهي أمرٌ آخر غير الإيمان الذي ليس بعده إيمان، وقد كشف الحوار والتجربة التي حكى فيها عن تعدد المذاقات الإيمانية في القلب الذي يتشرف إلى هذه المذاقات ويتطلع(8).
مراجع الحلقة الخامسة والثمانون بعد المائة:
(1) دعاء الأنبياء والرسل، محمد محمود أحمد وموسى الخطيب، ص85.
(2) دعاء الأنبياء والرسل، محمد محمود أحمد وموسى الخطيب، ص86.
(3) شرح صحيح مسلم، الإمام النووي، (2/184).
(4) الحوار والاستدلال في القرآن الكريم، خالد سليمان الياسين، ص187.
(5) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (1/390).
(6) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (2/965).
(7) التفسير التوحيدي "الجزء الأول من سورة الفاتحة إلى سورة التوبة"، حسن الترابي، (1/197).
(8) في ظلال القرآن، سيد قطب، (1/302).