تأملات في الآية الكريمة {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 267
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رمضان 1444ه/ أبريل 2023م
1. قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ}:
فسّرها ابن عباس رضي الله عنه وغيره على أنها "دين الله"، وسمّي الدين صبغة لظهور أثره على صاحبه، مثلما يظهر أثر الصّبغ في الألوان في الأشياء المصبوغة، فكذلك المتدين بدين الله يظهر أثر الدين عليه في صفحة وجهه ومسلكه وسمته وهيئته، وبما أن الصِّبغة تلزم الشيء المصبوغ وتبقى عليه، فكذلك المتدين يثبت على هذا الدين ويستمر عليه ويلزمه كلزوم اللون للشيء المصبوغ، ومن جهة أخرى، فإن الله عزّ وجل صبغ الأشياء في الطبيعة بالألوان المختلفة وشتّان بين اللون الطبيعي الذي خلق الله الأشياء عليه وبين ألوان البشر الصناعية.(1)
وقوله {صِبْغَةَ اللَّهِ} فكان الإيمان بالله وملة إبراهيم، وما أنزل الله على رسله هي الصبغة الإلهية التي تتغلغل في الجسد البشري، وجاء التعبير بكلمة صبغة حتى تعرف أن الإيمان يتخلل جسدك كله، إنه ليس صبغة من خارج جسمك ولكنها صبغة جعلها الله في خلايا القلب موجودة فيه ساعة الخلق، ولذلك فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: كلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرةِ، حتى يُعرِبَ عنه لسانُه، فأبواه يُهوِّدانِه، أو يُنصِّرانِه، أو يُمجِّسانِه.(2)
فكأن الإيمان صبغة موجودة بالفطرة، إنها صبغة الله فإن كان أبواه مسلمين ظل على الفطرة وإن كان أبواه من اليهود أو النصارى يهودانه أو ينصرانه أي يأخذانه ويضعانه في ماء ويقولون صبغناه بماء المعمودية، هذا هو معنى صبغة الله.(3)
ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبيّن لنا ذلك بأن يجعل من آيات قدرته اختلاف ألواننا، وهذا الاختلاف في اللون من صبغة الله، واختلاف ألوان البشر ليس طلاء، وإنما في ذات التكوين، فيكون هذا أبيض، وهذا أسمر، وهذا أصفر، وهذا أحمر، وغيره.
هذه هي صبغة الله وما يفعلونه من تعميد للطفل لا يعطي صبغة؛ لأن الإيمان والدين لا يأتي من خارج الإنسان، وإنما يأتي من داخله، ولذلك فإن الإيمان يهز كل أعضاء الجسد البشري.
واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ]الزمر:23[، هذا هو التأثير الذي يضعه الله في القلوب، أمر داخلي وليس خارجياً وأما إيمان غير المسلمين فهو طلاء خارجي وليس صبغة لأنهم تركوا صبغة الله ونقول لهم: لا، هذا الطلاء من عندكم أنتم، أما دينياً فهو صبغة الله.(4)
إنَّ في الآية إرشاد، بمعنى أي الزموا صبغة الله وهو دينه، وقوموا به قياماً تاماً بجميع أعماله الظاهرة والباطنة وجميع عقائده في جميع الأوقات، حتى يكون لكم صبغة وصفة من صفاتكم، فإذا كان صفة من صفاتكم، أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره طوعاً واختياراً ومحبة، وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ التام للثوب الذي صار له صفة، فحصلت لكم السعادة الدنيوية والأخروية لحث الدين على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ومعالي الأمور.(5)
2. قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}:
إنّها صبغة الله التي شاء لها أن تكون آخر رسالاته إلى البشر؛ لتقوم عليها وحدة إنسانية واسعة الآفاق لا تعصّب فيها ولا حقد، ولا أجناس فيها، ولا ألوان، ونقف هنا عند سمة من سمات التعبير القرآني ذات الدلالة العميقة.(6)
فقد جاء السياق على سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} أي: لا أحسن صبغة من صبغته وهذا استفهام بمعنى النفي، أي: لا أحد أحسن من الله صبغة ولا أحد أحسن منه ديناً وشرعة ومنهاجاً، لأن دين الله يشتمل على تحقيق المصالح، ودرء المفاسد بما لا يوجد مثله في أي دين وملة أخرى من أهواء البشر، والنفي بطريقة الاستفهام أبلغ من النفي المجرّد، لأنه يحمل معنى التحدّي، فكأنه يقول: هاتوا أحسن من الله صبغة، ولا شكَّ أن هذا أبلغ في الإقناع.(7)
وإذا أردت أن تعرف نموذجاً يبيّن لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من الصبغ، فقِسْ الشكَّ بضده، فكيف ترى في عبد آمن بربه إيماناً صحيحاً أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح، فلم يزلْ يتحلى بكل وصف حسن وفعل جميل وخلق كامل ونعت جليل، ويتخلى من كل وصف قبيح ورذيلة وعيب، فوصفه الصدق في قوله وفعله، والصبر والحلم والعفة والشجاعة، والإحسان القولي والفعلي، ومحبة الله وخشيته، وخوفه ورجاؤه، فحاله الإخلاص للمعبود والإحسان لعبيده، فقسه بعبد كفر بربه وشرد عنه، وأقبل على غيره من المخلوقين، فاتصف بالصفات القبيحة من الكفر والشرك والكذب والخيانة والمكر والخداع وعدم العفة والإساءة إلى الخلق في أقواله وأفعاله، فلا إخلاص للمعبود ولا إحسان إلى عبيده، فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما، ويتبين لك أنه لا أحسن {صِبْغَةَ} من صبغة الله، وفي ضمنه أنه لا أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه.(8)
3. قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}:
أي: خاضعون مطيعون، و"العبادة" التذلل إلى الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فمن كان على صبغة الله ودينه لزم العبادة وزيّن نفسه بطاعة الله تعالى.(9)
وبيان لهذه الصبغة وهي القيام بهذين الأصلين الإخلاص والمتابعة؛ لأن العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، ولا تكون كذلك حتى يشرعها الله على لسان رسوله، والإخلاص أن يقصد العبد وجه الله وحده في تلك الأعمال، فتقديم المعمول يؤذن بالحصر وقال: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار؛ ليدل على اتّصافهم بذلك "وكونه صار صبغة لهم ملازماً"(10). وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} يدل على حصر العبادة واختصاصها بالله عزّ وجل.(11)
مراجع الحلقة السابعة و الستون بعد المائتين:
(1) تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، ص233.
(2) صحيح البخاري، رقم (1358).
(3) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (1/613).
(4) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (1/613).
(5) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص98.
(6) في ظلال القرآن، سيد قطب، (1/118).
(7) تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، ص233.
(8) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص99.
(9) تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، ص233.
(10) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص99.
(11) تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، ص233.
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي