كتب أخي الشيخ الدكتور سلمان العودة في كتابه (فقه الحياة) عن كيفية إدارة الأولويات، قائلاً:
إدارة الأولويَّات تتعلق بأولويَّات الإدارة، وفيها فوائد نحتاجها، وهي:
أولًا: الأولويَّات في إدارة الوقت ذات علاقة وطيدة بالأولويَّات في الشريعة.
ثانيًا: التوفيق بين ما هو عاجل وما هو مهمٌّ، وفي كثير مِن الحالات لا تكون الأشياء العاجلة مهمَّةً، لكنها تفرِض نفسَها، وهنا يقع الارتباك، فيقدم ما هو عاجل، بينما الأصلُ تقديمُ ما هو مهمٌّ؛ لأنه هو الأَوْلَى والأهمُّ، وإنْ كان هناك إلحاح على العاجل، وهذا أيضًا يُعَبِّرُ عنه بعضهم بـ«الفرق بين الساعة والبوصلة»، والفرق بين الوقت والواجب، فإذا سيطرت الساعة على الإنسان، فإنه يعيش دائمًا ردودَ فعلٍ وقتيَّة لأحداث يعملها الآخرون، وهذا يترتَّب عليه أن يغفل عن العمل الابتدائي الذي ينبغي أن ينطلق من ذاته.
إنه لا بدَّ أن يحدِّد الإنسان لنفسه هدفًا، لما يريد أن يكونه في المستقبل، وذلك على مستوى الفرد والجماعة والدولة والأمة، كما يجب أن يكون هناك برنامج واقعيٌّ يحقِّق هذا الهدف.
اجتمع مجموعة مِن الشباب في مكتبة، وأخذوا يتناقشون فيما بينهم، فقال بعضهم: إنه قرأ في كتاب أنه لا بدَّ مِن تحديد الأهداف، وكان قد أتى لهم بكتاب قد طبعت عليه أهداف من الخلف، ومكتوب على ظهره: أول هدف إقامة الحياة الإسلامية، والحكم الإسلامي، فقال هؤلاء الشباب: هذا أفضل هدف يمكن أن نجتمع عليه.
وهذا ليس هدفًا بالمعنى الصحيح بالنسبة لهؤلاء؛ لأن المقصود: الهدف الذي ترسِم طريقًا إليه، وفق مرحلةٍ زمنية وخطةٍ للإنجاز، كالتزوُّد بالعلم الشرعيِّ، وحفْظ القرآن الكريم، وحفْظ مَتْن في السنة، ومعرفة بعض العلوم، وتوظيف بعض الطاقات، إلى غير ذلك مِن الأهداف العمليَّة الممكنة.
إنَّ فَهْمَ الواقع جَيِّدًا قد يعفي من القلق، ويُعِين على العمل الرشيد، فإنَّ مصدر قلق الكثيرين توقُّعات معيَّنة، وبعض هذه التوقُّعات مخاوف مُبَالَغ فيها، والتجارب علَّمتنا أن لا نبالغ في المخاوف؛ فإن الأمورَ لا تذهب بعيدًا، ومن سُنَّة الله أنَّ الله يجعل مِن كلِّ شيء ما يقاومه:
لكلِّ شيءٍ آفةٌ من جنسِهِ
حتى الحديد سطا عليه المبردُ
فعلى الإنسان أن يقلَق، ولكن باعتدالٍ، فلا يبالِغ في القلق مِن المخاوف التي يتوقع جديتها، وكما يقال:
سهرت أعينٌ ونامت عيون * لأمور تكـون أو لا تكــونُ
إنَّ ربًّا كـفـــاك ما كــان *سيكفِيك في غدٍ ما سيكـونُ
ولا يعني أن يكون الإنسان لامباليًا، لكن هناك فَرْقٌ بين هذا، وبين أن تأخذَنا حالةٌ مِن الذعر والهلع الذي يوقف حراكنا، ويجعلُنا لا نستطيع أن نركِّز في جهودِنا وأعمالنا.
إن أعمارنا لا تكفي لأعمالنا وخُطَطِنا كلِّها، فلماذا لا نفكِّر بطريقة نستطيع من خلالها أن نحقِّق مزيدًا مِن الأهداف، فيمكِن أنْ توظِّف وتفوِّض وتُوجِّه آخرين، وإن كان عندك مجموعة مِن الآراء والمقترَحات تبثُّها للناس، فإن عملوا بها فكأنَّك أنت الذي عمِلْت، و«مَن دعا إلى هُدًى، كانَ له مِن الأجرِ مثلُ أجورِ مَن تَبِعَه».
إننا لا نملك سيطرة مطلقة على الحياة كلِّها، ولكننا نملك بعضَ السيطرة على أنفسنا، وعلى خياراتنا الخاصَّة، واجتهاداتِنا الذاتيَّة.
كما أن معالجةَ الأزماتِ العابرةِ، ربما تصنع عند الإنسان القلقَ والإجهادَ والضغطَ.
كم يخدع الإنسان نفسه حينما يزعم أنه مشغول دائماً، ويظن أن مَن كان كذلك فهو مهمٌّ.
إنَّ الإنسان المهمَّ يجد وقتًا لكثير مِن الراحة والأنس والهدوء والقراءة، وليس علامة الأهميَّة هو الانشغال الدائم، فربما كان الانشغال بسبب عدم التنظيم، أو عدم ترتيب الأولويَّات.
الوقت والانتفاع به:
فلا تظنُّ أن الوقت مليء ولا يتسع.
تشتهر قصة رجل أحضر إناء له فُوَّهة واسعة، وأحضر مجموعة مِن الحجارة الكبيرة، ووضعها فيه حتى امتلأ بهذه الحجارة، ثم سأل الحضور: هل امتلأ؟ قالوا: نعم. فأخرَجَ مجموعةً أخرى مِن الحجارة الصغيرة ووضعها عليها، فتخلَّلَتْها حتى وَسِعَها الجالون كلَّها أيضًا، فقال: هل ترونه امتلأ؟ قالوا: نعم. فأخرج إناءً فيه رملٌ، ووضعه عليها، فاستوعبها، فسألهم: هل امتلأ؟ قالوا: نعم. فأخرج إناءً فيه ماءٌ، فصبَّه عليها، فتخلَّلها.
إن من النضج أن نفكِّر بالأشياء الكبيرة؛ لكن الأشياء الصغيرة ولو كانت من الدرجة الثالثة أو الرابعة، فلها في الوقت مُتَّسع إذا أُحْسِن توظيفها.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب"فقه الحياة" للشيخ سلمان العودة، صص 103-104