نماذج من الأولويات
اقتباسات من كتاب "فقه الحياة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: 25
محرم 1445ه/ يوليو 2023م
أولا: تصحيح المفاهيم المغلوطة المرتبطة بالدين، وهذا مِن الأولويَّات المهمَّة جدًّا؛ لأن هذه المفاهيم تكون عصيَّة على التصحيح؛ إذ يظنُّ الناس أنها مِن الدين، فإذا رأوا مَن يحاول تغييرها قالوا: هذا يريد أنْ يغيِّر ديننا.
فالعمل للدنيا مِن الدين، والإنجاز مِن الدين، والإخلاص في العمل مِن الدين، والأمانة مِن الدين، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾، وعند قراءة هذه الآية يتبادر إلى أذهان بعض الناس الصلاة والصيام، بينما هذا جزء مِن المعنى، وهو من أمر الله، ولكنه ليس كلَّ المعنى، فالمعنى يقتضي فِعْلَ كلِّ ما أمرَ الله به، فيدخل في ذلك العمل في الدنيا.
ولو أنَّ إنسانًا صلَّى وصام، ولم يَسْعَ في طلب الرزق، فعليه ألا ينتظر وصوله؛ لأنَّ السماءَ لا تمطِر ذهبًا ولا فضة.
وأي إنسان لم يرتِّب ولم يخطِّط، فعليه أنْ لا ينتظرَ النجاحَ، ومَن لم يَسْعَ في الزواج، فعليه أنْ لا ينتظرَ الولدَ..
وهذا يقودُنا إلى نقطة أخرى في موضوع تصحيح المفاهيم، وهي المتعلِّقة بالأسباب:
فعند المسلمين إيمان مُبْهَم بالأسباب، بينما في الشريعة تأكيد عظيم على قضيَّة السببية، وأنَّ الأشياءَ التي يجدها الناس هي نتيجة للأسباب التي فعلوها، هذا في الدنيا، وفي الآخرة يدخلون الجنة برحمة الله تعالى، لكن الله تعالى قال: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، فهذه الأعمال التي عملوها جعلتهم يتأَهَّلون لرحمة الله عزَّ وجلَّ.
ومثلُ ذلك أيضًا: التفريقُ بين القَدَر، وبين الاستسلام والقعود، ولا بدَّ من الإيمان بالقَدَر خيره وشره، وأنَّ اللهَ تعالى عَلِم كلَّ شيء، وكتب مقاديرَ الْخَلْقِ، لكنَّ القَدَر لا يدعو الإنسان إلى القعود والاتكاليَّة وتَرْك العمل.
ومن ذلك: التفريقُ بين الغيب الذي نؤمن به، وبين الخرافة والأسطورة التي نرفُضها وننأَى بديننا وعقولنا عنها، فالكثير مِن المسلمين تتسرَّب إليهم خرافاتٌ وأساطيرُ مِن جَرَّاء رَبْطِها ببعض القضايا الغيبيَّة، وهذه مشكلة كبيرة، فنحن نؤمِن بالدار الآخرة التي تبدأ مِن حياة البرزخ بعد موت الإنسان ووَضْعه في قبره؛ لكن عندما يأتي مَن يروي قصصًا وأخبارًا تتعلَّق بمشاهدات يزعمُها، أو ينقُلها عمَّن يثِق به، فلسنا مُلْزَمين ولا متعبَّدين شرعًا بأن نؤمِن بهذه الأخبار، وليست هذه جزءًا مِن ديننا، وقد تكون روايات غير صحيحة، وبعض المسلمين أصبح في عقليَّاتهم قابليَّة للتصديق بالأشياء الخياليَّة، وهذا موجود عند مُعْظَم الشعوب التي غلب عليها الجهل، فبعض الخرافات أسرع في الناس مِن السحاب استدبَرَتْه الرياحُ، بينما الحقائق والمعلومات والقضايا الصحيحة لا يتقبَّلُها الناس بسهولة.
ولو أن إنسانًا طبَع حديثًا من «صحيح البخاري»، ووزَّعه على الناس، أو علَّقه في المساجد؛ لم يقرأْه إلا القليلُ، ولم يسأل عنه إلا القليل مِن الناس؛ لكنه لو جاء بحديث موضوع، وفيه غرائب وعجائبُ، لوجدت أن الناس يسألون عنه، ويتناقلونه، ويصوِّرونه إلى غير ذلك.
ثانيا: مقاومة الاستبداد والطغيان السياسيِّ، مع عدم الانتقال مِن طغيان إلى طغيان آخر، بمعنى أن لا يتحوَّل المجتمعُ المسلمُ إلى ميدان تجربة اختبار.
فلا بد من تحديد الموقف مِن الأنظمة، والحكومات في العالم الإسلاميِّ بوضوح واتزان أيضًا، فيجب أن يكون هناك حذرٌ مِن كَيْل المديح، والثناء المفرِط، وبالمقابل يكون هناك اعتدالٌ في المطالَبة بالاصلاح والتصحيح، ولا بد أن يكون هناك نوع مِن الجهود والمطالبات، ولكن بعيدًا عن الأساليب التي قد تنتهج منهَج العنف، أو محاولة فرض الرأي بالقوة، فهذا لا يخدم إلا أعداءَ الأُمَّة في الداخل والخارج.
سابعًا: المشاركة والتَّمَيُّز، فمن المهمِّ جدًّا أنْ يكون لدينا جواب واضح أمام الفرص الجديدة القادمة، ولا بد أن يكون الخيار محسومًا في ضرورة المشاركة وبذْل الجهد في هذه الأشياء، مِن خلال التأثير المباشر وغير المباشر.
ومن ذلك: المشاركة الاقتصاديَّة، مِن خلال البنوك الإسلاميَّة، والمعاملات المصرفيَّة التي يمكن أن تشكِّل مواجهة في ظِلِّ الغزو الاقتصاديِّ.
ومن ذلك: المشاركة السياسيَّة في المجالس النيابيَّة، في الانتخابات، فالأفضل أن يكون هناك نوع مِن الحزم واختيار المشاركة، بغضِّ النظر عن السلبيَّات الموجودة، وعما يكتنِفها مِن مخاوف، وعن حداثة التجربة، وبغض النظر عن أشياء كثيرة، إلا أنَّه يظلُّ في النهاية أنَّ المشاركة أفضل.
وقد يكون منَّا مَن لا يرى ذلك على الأقلِّ لنفسه، وهذا أيضًا ينبغي أن يكون محترَمًا، فليس المقصود أن تُجْمَع الخيارات كلُّها في رأي واحد، لكن أن نتعلَّم كيف نختلف، والذي أميل إليه: أنَّ الأصل والمبدأ هو مبدأ المشاركة المتميِّزة التي لا تجعَلك مُجَرَّد رقم، أو تذوب في هذا التيار، أو في هذا العمل، وإنما تشارك مشاركة متميِّزة تُعَبِّر فيها عن قناعتك، وموقفك، ورؤيتك الإيمانيَّة الخاصَّة.
ثالثا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتقديم الأمر بالمعروف كما قدَّمه الله ورسوله ﷺ مِن خلال البرامج والمشاريع الكثيرة التي نعملُها، وبعد ذلك يأتي النهي عن المنكر، وهو واجب، فينبغي أن يتخصَّص فيه طائفة، كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾، وكما قال سبحانه: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾؛ لكن علينا أن لا نربط نشاطنا بوجود مُهَيِّجَات، أو بما يسمِّيه بعضُهم «إدمان الطوارئ»، فلا نتحرَّك إلا على وقْع مشكلة، أو أزمة، أو أمر طارئ، وأن نشتغل بإطفاء الحرائق، وأن تكون مهمَّتُنا مُجَرَّد الاحتجاج، فلا يكفي أن نعرف ما لا نريد وما نرفض، بل لا بد أن نعرف ما نريده، فنسعى في طلبه، ونجتهد في إدراكه والحصول عليه.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب"فقه الحياة" للشيخ سلمان العودة، صص 107-106