(إضاءات في فقه الموازنات)
اقتباسات من كتاب "فقه الحياة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: 26
محرم 1445ه/ يوليو 2023م
أولًا: تعريف الفقه:
الفقه هو الفَهْمُ، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾، ويُستعمل بمعنى: الاستنباط والاستخراج، ولذا عَرَّفه الاصطلاحيون بأنه: معرفة الأحكام الشرعيَّة مِن أَدِلَّتها التفصيليَّة.
وهذا قَصْرٌ للفظ على بعض معناه، فإنَّ الفقه يشمل المعرفةَ الإسلاميَّة كلَّها جُمْلة، بل ويشمل الممارسة العمليَّة للسلوك الإسلاميِّ، ولذا جاء في حديث معاوية رضي الله عنه في «الصحيحين»: «مَنْ يُرِدِ اللَّـهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
وتواردت نصوص السلف على أن الفقه يعني: معرفة الشريعة جملة، وأَلْحَقَ بعضُهم بذلك السلوكَ الشخصيَّ، وكأنَّ هذا مِن باب فِقْهِ القلوب، وأن المرادَ مِن المعرفة الشرعيَّة الامتثالُ، فهو غايتها ومقصدها، وقد يكون هذا مِن باب الإلحاق والإتْباع، وليس مِن باب التعريف الموضوعيِّ.
ولا مشاحَّة أنْ يُقْرَن الفقه بما يدلُّ على مقصود الباحث، فيقال: فِقْه الفروع، فقه الأصول، فقه الدعوة، فقه المصلحة، فقه الأولويات، فقه الموازنات، فقه النوازل، فقه الأزمة، فقه اللغة، فقه الحديث، فقه السنة، فقه التمكين، فقه الاستضعاف..إلخ.
ثانيًا: معنى الموازنات:
الموازنات: جمع مُوازَنة، مأخوذة مِن الوزن والميزان، وهي مُفَاعَلَة بين شيئين فأكثر، وكأنَّ الـمُكَلَّفَ يكون مُتَرَدِّدًا بين أمور عِدَّة، فيساعده هذا الفقه على حُسْنِ الاختيار، كالكَفَّارات التخييريَّة، يقول الله تعالى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِن أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾، ويقول سبحانه: ﴿فَفِدْيَةٌ مِن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾.
ثالثًا: تعريفه:
فقه الموازنات: هو العلم الذي يتمكن به الـمُكَلَّفُ مِن اختيار الواجب، أو الأولى.
ونقرأ في هذا التعريف أمورًا:
1- الإشارة إلى الاختيار؛ لأنه لا يمكن تصوُّر الموازنةِ إلا بين أمرين فما زاد، وإلَّا فالمرء حين يكون أمام طريق واحد لا سبيل له إلى غيره، فإنَّه لا يحتاج إلى إعمالِ ذهنٍ أو مشورة، لكن يقع له التردُّد بين سلوك هذا الطريق، أو التوقُّف عنه؛ لعدم الجزم.
وهذان في الحقيقة طريقان:
الأول: العزيمة والمضيُّ فيما خِيْر له فيه.
الثاني: التوقُّف والتروِّي.
ومثال هذا أن يتردَّد العالم في القول في مسألة ما، هل يُفْتي فيها، أو يسكت؟ فهذان طريقان يحتاج فيهما إلى الموازنة.
2- الإشارة إلى «اختيار الواجب»؛ لأن البحث قد ينتهي إلى القول بوجوب سلوك هذا الطريق، ولذا يقول الأصوليون: إنَّه لا يكاد يوجد في الدنيا خير مَحْضٌ ولا شرٌّ مَحْضٌ، ولكن ما غَلَبَ خيره فهو مطلوب، وما غلَب شرُّه فهو مدفوع.
وعلى هذا فالواجب قد يتضمَّن مَفْسَدةً، ولكنَّها مغمورةٌ في مصلحة أعظمَ منها، بمعنى أن اختيار الوجوب هو موازنة بين مصالح ومفاسد تَمَخَّضت عن ترجيح جانب على آخر.
وهذا قد يتحقَّق في مسائل شرعيَّة، مثل الجهاد المشروع، ففيه ذهابٌ للأنفس، ويُتْمٌ للأطفال، وترميل للنساء، ولكن مصلحتَه أعظم في حماية الأُمَّة، ورَدِّ المعتدين.
وقد يتحقَّق في مسائلَ مصلحيَّة لا نصَّ فيها، مثل أنْ يعتقدَ الـمُكَلَّفُ أنَّ شيئًا ما هو واجب عينيٌّ عليه؛ لأنَّه لا يقوم به أحد غيره، وهو يَقْدِر منه على شيء لا يَقْدِر عليه سواه، وهذا يكثُر في أبواب العلم والدعوة والإصلاح ونحوها.
3- والإشارة إلى اختيار الأَوْلَى، حيث لا يكون في المسألة وجوب أو تحريم؛ لعدم ظهور الْحُكْم، أو للتَّنازع فيه، فيُرَجِّح المرءُ وجهًا أو سبيلًا على جهة الميل، لا على جهة القطع واليقين.
ومن ذلك: الاختيارُ بين أنواع مِن الخير كلها مطلوب؛ لكن يَقَع التردُّد في أيها أفضلُ عند الله وأنفع لعباده، كالعلوم النافعة، سواءً كانت علومًا دينيَّة، أو علومًا دنيويَّة، مما يحتاجه الناس في حياتهم.
رابعًا: استمداد فقه الموازنات:
فقه الموازنات يتصل بالعديد مِن العلوم، وقلَّ مَن ألَّف فيه تأليفًا مستقلًّا، ولكنه يقتبس مِن أبحاثٍ أصوليَّة مثل:
1- بحث المصالح والمفاسد، كما قرَّره الشاطبيُّ والغزاليُّ وابن تيمية وابن عبد السلام ومَن بعدَهم.
وهو أهمُّ متعلِّقات فقه الموازنات.
2- بحث القياس، فإن القياس نوع مِن الموازنة، كما ذكر الأصوليُّون في تعريفه: أنَّه إلحاقُ فرعٍ بأصلٍ في حُكْمٍ لعِلَّة جامعة بينهما.
وقد يكون الفرع المنظور إليه مُتَرَدِّدًا بين المسكوت عنه، وبين إلحاقه بأصول منصوص عليها، فهذه موازنة، وصوابها يعتمد على صدْق المقايسة واعتدالها.
3- بحث المقاصد الشرعيَّة، من حيثُ إنَّ فَهْم المقاصد واستيعابها يُعِين على اختيار الأَسَدِّ والأنفع في موارد النزاع، ومواضع الإشكال، ومواطن الغموض، والاختلاف بين الناس.
وبحث المقاصد وإن كان سَبَقَ إلى دَرْسِه الإمامُ الشاطبيُّ، وتوارد عليه مِن بعدِه الباحثون، وكان من أكثر البحوث المتأخِّرة فيه تجويدًا كتاب الإمام الطاهر بن عاشور في مقاصد الشريعة، وتوسَّع في استنباط المقاصد وتطبيقها سماحة الشيخ عبدُ اللهِ بنُ بيه حفظه الله تعالى في كتابه: «علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه»، إلا أنه لا يزال بحاجة إلى مزيد مِن التقعيد والضبط والنشر المتوازن.
4- ويتطرَّق إليه أهلُ العلم في مُصَنَّفَاتهم التي تحتاج إلى نَظَرٍ متوازن بين مصالحَ ومفاسدَ، مثل أبواب السياسات الشرعيَّة، كما في كتاب الماورديِّ وأبي يعلى وابن القيِّم وغيرهم.
أو في أبواب خاصَّة مِن سياسة الفرد والمجتمع، كما في بحث العُزْلة والْخِلْطة، والذي كتب فيه الخطابيُّ وابنُ رَجَبٍ وسواهم.
حيث لا تخلو هذه الأبحاث وتلك مِن مقايسة بين المصالح المترتِّبة على عمل ما، وبين المفاسد، مع بناء الحكم أو الاجتهاد الذي يصل إليه المصنِّف على هذه المقايسة.
ومن أبرز مَن اعتمد هذا المعنى في تفصيل المسائل الحادثة الإمام الجوينيُّ في كتابه: «غِياث الأُمَم في الْتياث الظُّلَم»، حيث وازن بين خروج الإمام للحجِّ الفريضة -مثلًا- وبين بقائه لحراسة البَيْضة، وحماية الأُمَّة، وتدبير شأن الرعيَّة.. وهَلُمَّ جَرًّا..
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب"فقه الحياة" للشيخ سلمان العودة، صص 109-108