الأربعاء

1446-08-13

|

2025-2-12

تأملات في الآية الكريمة

﴿قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾

الحلقة: 31

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

 

- ﴿قال يا بنيّ﴾: وهو خطاب تحنين، ويدلّ على القرب من القلب، و (بني) تصغير: (ابن)، وفيها كثير من الحنان والرحمة والشفقة والعطف. فقد جاءت كلمة ابن مصغرة وهو تصغير تدليل، وما من نبي نادى ابنه في القرآن كلّه إلّا صغّر الابن:

- قال تعالى على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات: 102].

-وقال نوح لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ [هود: 42].

وفي هذا النداء دلالة تربوية أيضاً، ذلك أنّ طلب الأنبياء من آبائهم، أو أبنائهم، لا بدّ أن يسبقه تودد وتحبب، فسيدنا إبراهيم قبل أن يعرض الرؤيا على ابنه إسماعيل عليه السلام قدّم النداء بالتصغير، وكذلك فعل سيدنا نوح عليه السلام مع ابنه، وهكذا ينبغي أن يفعل الآباء مع أبنائهم أن يقدموا جانب المودة والقرب قبل الطلب، فقد أتبع يعقوب عليه السلام الطلبَ بذكر السبب، وما ذلك إلّا احترام لعقل المخاطب. (1)

وقول يعقوب عليه السلام لابنه: ﴿يا بني﴾، يفهم منه أن الابن ما زال صغيراً، ليست له ذاتية منفصلة عن الأب ليقرر بها ما هو المناسب وغير المناسب.

وحين يفزع يوسف عليه السلام مما يُزعجه أو يُسيء إليه أو أيُّ أمر معضل، فهو يلجأ إلى من يحبه، وهو الأب لأن الأب هو الأقدر في نظر الابن على مواجهة الأمور الصعبة.(2)

- ﴿لا تقصص رؤياك على إخوتك﴾: نهى يعقوب عليه السلام ابنه يوسف عن أن يقص رؤياه على إخوته؛ لأنّه قد علم تأويلها وخاف أن يقصها على إخوته، فيفهمون تأويلها ويحصل الحسد له.(3) وهذه الآية أصل في ألّا تُقص الرؤيا على غير شفيق ولا ناصح، ولا على من لا يحسن التأويل فيه؛ فجاء في الحديث كما تقدّم: " الرؤيا جزء من أربعين جزءاً من النبوّة.(4) "والرؤيا معلقة برِجْل طائر ما لم يحدث بها صاحبها فإذا حدث بها وقعت فلات تحدثوا بها إلّا عاقلاً أو محبّاً أو ناصحاً.(5)

وقيل لمالك: ‌أيعبِر ‌الرؤيا ‌كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يُلعب؟ وقال مالك: لا يعبر الرؤيا إلّا من يحسنها، فإن رأى خيراً أخبر به، وإن رأى مكروها فليقل خيراً أو ليصمت، قيل: فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه لقول من قال إنها على ما تأولت عليه؟ فقال: لا! ثمّ قال: الرؤيا جزء من النبوّة فلا يتلاعب بالنبوّة.(6)

- ﴿فيكيدوا لك كيداً﴾: علّل سيدنا يعقوب عليه السلام أمره ليوسف عليه السلام بكتمان الرؤيا عن إخوته، لأنهم إنْ علموا بذلك يدفعهم الحسد والغيرة إلى الكيد والمؤامرّة وظاهر الجملة: ﴿فيكيدوا لك كيداً﴾ يدلّ على أنّهم يكيدون مجتمعين، وأن كيدهم يتجدد حتّى ينالوا مبتغاهم، وأن كيدهم مؤكد مطلق وشامل، ثمّ بيّن سبب ذلك بأن ﴿الشيطان للإنسان عدو مبين﴾، فيوسوس لإغرائهم على الإقدام على يؤذي يوسف كما فعل ابن آدم من قبل حين استغلّ غيرته وحسده على قبول قربان أخيه؛ لأنْ يدفعه إلى قتله، فأصبح من الخاسرين.(7)

والكيد: احتيال مستور لمن لا تقوى على مجابهته، ولا يكيد إلّا الضعيف؛ لأن القوى يقدر على المواجهة، ولذ يقال: إن كيد النّساء عظيم؛ لأن ضعفهن أعظم.(8)

ويحتمل أن تكون ﴿كيداً﴾ للتعظيم أو التحقير، فإن كان للتعظيم فليردع ابنه، وليكون المنع آكد، وإن كان للتهوين والتحقير، فحتى يخفف من أضغان النّفوس بين يوسف وإخوته.(9)

وقال حسين مخلوف: ﴿فيكيدوا لك كيداً﴾: فيحتالون في هلاكك احتيالاً خفيّاً، لا قبّل لك بدفعه، و (كاد) يتعدى بنفسه فيقال: كاده كيداً، ويتعدى باللام، لتضمنه معنى احتال.

والكيد في اللغة: يكون ممدوحاً ومذموماً وإن كان يستعمل في المذموم أكثر من مثل:

- ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ [يوسف: 52].

- ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ [الطور: 42]. وسميت الحرب كيداً لما فيها من الاحتيال والخديعة، ومنه حديث ابن عمر: "غزا رسول الله عليه الصلاة والسلام غزوة كذا وكذا ولم يلق كيداً". أي: حرباً.(10)

- ﴿فيكيدوا لك كيداً﴾: أي: يتكلموا معك بكلام حسن، وهم في أنفسهم يضمرون لك السوء، ويظهرون الفعل الجميل، وهم يرصدون لك الانتقام.

والكيد بهذا المعنى من صفات العاجز الّذي يحتال على عدو له قوي، لا يقدر على معارضته بالبطش، ولا مصارعته بالانتقام فيظهر له رفقاً ولين جانب، وهو من خلال ذلك ينصب له حبائل الشرّ حتّى يرتطم فيها.(11)

 

مراجع الحلقة الحادية و الثلاثون:

1 الإعجاز الدلالي في سورة يوسف، مرجع سابق، ص 45.

2 تفسير الشعراوي، مرجع سابق، (11/6848).

3 فتح القدير، مرجع سابق، (3/8).

4 التدبر والبيان في تفسير القرآن بصحيح السنن، أبو سهل محمد المغراوي، (6/27).

5 سنن الترمذي، مرجع سابق، حسن صحيح، تفسير القرطبي، (3/1075).

6 تفسير القرطبي، مرجع سابق، (3/1075).

7 يوسف عليه السلام، علي القره داغي، مرجع سابق، ص 42.

8 تفسير الشعراوي، مرجع سابق، (11/6853).

9 سورة يوسف، د. أحمد نوفل، مرجع سابق، ص 275.

10 سورة يوسف، د. أحمد نوفل، مرجع سابق، ص 273.

11 سورة يوسف، د. أحمد نوفل، مرجع سابق، ص 273.

 

يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/668


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022