الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

“مدى الأزمة وحدودها”

اقتباسات من كتاب "فقه الحياة"

لمؤلفه الدكتور سلمان العودة (فرج الله عنه)

الحلقة: 41

الأزمة تُطْلَقُ على الشِّدَّة، وتُطْلَق على المضيق، فيقال: المِئْزَم أي: المكان الضيِّق، وتُطْلَق على السَّنَةِ المؤزمة، وهي السنة التي ليس فيها خصب ولا مطر.

فالأزمة هي: خروجُ الشيءِ عن مساره الطبيعيِّ في أيِّ مجالٍ، فقد تكون أزمة صحيَّة، أو أزمة ماليَّة، أو أزمة في الأسرة بين الزوجين، أو الأب وأبنائه، أو أزمة في المجتمع، كالأزمة التي يعانيها مجتمعُنا اليومَ في ظِلِّ تَدَاعيات العنف بكافَّةِ صوره وأشكاله، سواء تمثَّلَ في العنفِ الـمُسلح الذي اندفع إليه بعضُ الشباب بحماس وجهل، أو العنفِ الإعلاميِّ الذي تحدَّث فيه البعض بلغة عنيفة، أو أزمة غلاء الأسعار وصعوبة المعيشة.

وهذه الأزمات التي تمرُّ بنا يجب ألا نتجاهلَها، بحُجَّة أننا مشغولون بأزمات أخرى في الأمة؛ لأنَّ الأُمَّة مجموعة أفراد، وكما يُقال عند العرب: فاقدُ الشيءِ لا يُعْطيه! فإذا كان هناك مَن يعيشون أزمات في حياتهم، فمعنى ذلك أنهم لن يكونوا قادرين على التعاطي السليم مع الأزمة العامَّة، والحياةُ تَظَلُّ جاريةً بكلِّ تفاصيلها وقوَّتها، مهما كان هناك من الأزمات العامَّة.

وهناك الأزمات الطارئة المتفجِّرة، كأزمة فلسطين أو أزمة العراق، أو الصومال أو غيرها.. هذه نُقَطُ صراعٍ ومواجهةٍ، ومع الأسف الشديد أن ثمانيًا وعشرين من ثلاثين صراعًا هي صراعات في العالم الإسلاميِّ، وهذه الصراعات هي عوائقُ في طريق البناء والتنمية والإصلاح والاستقرار، وبعض هذه الأزمات محليَّة ذاتيَّة، استغلَّها عدوٌّ خارجيٌّ، وحاول أن يُلْقِي عليها الأضواء، ويُوَظِّفُها لأغراضه الخاصَّة.

هذه الأزمات هي في معظم البلاد الإسلاميَّة، ولذا ينبغي أن نُدْرِك أنها تشويهٌ وبُثور في وجه العالم الإسلاميِّ، وليس من المصلحة أبدًا أن تتحوَّل مجتمعاتُ المسلمين إلى ميادينَ للصراع والحرب، والقتال الطائفيِّ، أو بين الجيران، أو بين الفُرَقاء المتخاصمين..

بَيْد أن هناك عددًا من البلاد الإسلاميَّة، كفلسطين والعراق، تعرَّضت لاغتصاب وغَزْوٍ، وفي هذه الحالة، فإنَّ جميع القوانين والأنظمة -فضلًا عن الديانات السماويَّة- تُقِرُّ بحقِّ هؤلاء في مدافعة العدوِّ المحتلِّ، ومقاومته بالوسائل الشرعيَّة.

وهناك الأزمة العميقة الـمُقيمة في جسد الأُمَّة، وهناك إجماعٌ على وجود هذه الأزمة، حتى الحكام بدأوا يتحدَّثون عن هذه الأزمة، وفي بعض المقابلات في القنوات الفضائيَّة، أكد عدد من المسؤولين على وجود الأزمات؛ مِن فساد إداريٍّ مُزْمِنٍ، وفسادٍ ماليٍّ، واستبداد سياسيٍّ يمنع حقَّ الفرد المسلم في إبداء الرأي والمشورة والمشاركة في القرار، واستبداد اجتماعيٍّ مِن خلال سيطرة مُحْكَمَةٍ لقانون الأُسْرَة على الجميع، سواءً كان ذلك بالحقِّ أو بالباطل.

ومن ذلك الاستبداد العلميُّ، سواءً كان استبدادًا علميًّا شرعيًّا، من خلال الرأي الفقهيِّ الذي يُفْرَض على الآخرين بدون دليل، وبدون أن يُعْطَى الآخرون حَقَّهم في المناقشة.

فهناك نقائصُ في العقل المسلم، يجب أن تُعَالَج، كانعدام القدرة على الرؤية الشاملة، والتركيز على جزء من المشهد دون احتوائه.

ومن ذلك: العجز عن ردِّ الظواهر إلى أسبابها، فهناك مَن لا يرى الألوان الرمادية أو الألوان الوسطى، وإنما يرى الأبيض والأسود، ويرى البراءة أو الإعدام، ويرى أن فلانًا ملاك أو شيطان، وأنه في قَعْر الجحيم، أو في الفردوس الأعلى، أمَّا الحلولُ الوسطيَّةُ، وهي التي تجمع ما هنا وما هنا، ففي كثير من الأحيان لا تُدْرَك؛ إضافة إلى أنَّ كثيرًا مِن عقولنا تعاني مِن التشويش، بفعل التَّعَصُّب للجماعة، أو للرأي، أو للمذهب، أو ما أشبه ذلك..

وإن مما يزيد من صعوبة الإصلاح والتدارك في مجتمعاتنا الإسلاميَّة: أن كثيرًا من أخطائنا وعيوبِنا تتترَّس بالدين، والدينُ هو الوسيلة للإصلاح، فقد نعى سبحانه وتعالى على المشركين قولهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾، ﴿وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾؛ لكنَّ كثيرًا من الناس يخْلِطون بين الثبات على الحقِّ، والجمود على الرأي، ويحاولون أن يجعلوا لرأيهم قداسةً دينيَّة؛ حتى لا يُراجعوا فيه، ولا يُناقشوا، مع أنَّ سيدَنا محمدًا ﷺ الذي كان يدعو بعد التشهد ويقول: «يا مُقَلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبي على دينِك»..، كان يدعو أيضًا في صلاة الليل يقول: «اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الـحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَن تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».

فكُلُّنا -إذًا- مُجْمِعون على وجود أزمةٍ، حتى عند الأفراد؛ لكن ليس ثَمَّت اتفاق على تحديد هذه المشكلة، ولا يلزم أن نَتَّفق على تحديدها؛ لكن يجب أن نَتَّفق على منهج علميٍّ في المعالجة، فكثيرًا ما نتدافع بالتهم، وكلُّ فردٍ يُلْقِيها على الآخر.. وفي كثير من الأحيان نعاني مِن انتقائيَّة، فنطلب تحقيقَ الأشياء إذا كانت في صالحنا، ونرفضها إذا كانت في غير صالحنا.. وعندنا قطعية في غير موضعها، فنُعْطي بعضَ الأشياء حَصانةً أن تكون محلَّ نظرٍ أو نقاشٍ، مع أنها مما اختلفَ فيها الناس خَلَفًا عن سَلَفٍ، وهذا الاختلافُ معناه أنها ليست قضيَّةً عَصِيَّةً على المناقشة.. إضافةً إلى الانهزاميَّة والانفصال عن الأُمَّة، والعدوان على دينها من قبل كثير من أبنائها..

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب"فقه الحياة" للشيخ سلمان العودة، صص 159-162


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022