الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

فُجع سيدنا يعقوب (عليه السلام) بفقد أولاده – كما أخبرتنا سورة يوسف – مرتين، الأولى حينما كاد إخوة يوسف (عليه السلام) به، حيث ألقوه في غيابة الجبّ، وأخبروا أباه – كذباً – أنّ الذئب أكله إذ كانوا يلعبون، قال الله تعالى في ذلك: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) ﴾ [يوسف: 15 – 18]، أما المرة الثانية فحين أخبروه أنّ ولده الثاني – أخاهم الأصغر – سَرق صُواع الملك حينما كانوا في مصر، فاعتقله الملك جزاء لما كسبت يداه! فكانت هذه المرة أشدّ على يعقوب عليه السلام، إذ ذكّرته بمصيبته الأولى؛ فقْد يوسف (عليه السلام)، فصار الهمُّ همين، والحزن حزنين؛ لذلك كان أثر الآيات على نفوس قارئيها والسامعين لها أشد وقعاً وأعمق تأثيراً، قال الله تعالى حاكياً قول يعقوب (عليه السلام) حينما أُخبر بالخبر: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا  فَصَبْرٌ جَمِيلٌ  عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا  إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۝ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ۝ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ۝ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۝﴾ [يوسف: 83-86].

وفي هذه الكلمات يتجلى الشعور بحقيقة الألوهية وفي هذا القلب الموصول بالله، تتجلى هذه الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر ولآلئها الباهرة. إن هذا الواقع الظاهر الميئِّس من يوسف، وهذا المدى الطويل الذي يقطع الرجاء من حياته فضلاً على عودته إلى أبيه، واستنكار بنيه لهذا التطلع بعد هذا الأمد الطويل في وجه هذا الواقع الثقيل، إن هذا كله لا يؤثر شيئا في شعور الرجل الصالح، بربه فهو يعلم من حقيقة ربه ومن شأنه ما لا يعلم هؤلاء المحجوبون عن تلك الحقيقة بذلك الواقع الصغير المنظور وهذه قيمة الإيمان بالله ومعرفته سبحانه، ومعرفة قدرته ورحمته ورعايته عز وجل لعباده. (في ظلال القرآن، 4/2026)

1- ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾:

قال القشيري – رحمه الله -: شكا إلى الله ولم يشك من الله، ومن شكا إلى الله وصل، ومن شكا من الله انفصل، ولما شكا إلى الله وجد الخلف من الله.

إذا تمنى الناس روحا وراحاً …… تمنيت أن أشكو إليك فتسمعا. (اللطائف والإشارات، 3/200-201)

قال أبو حيان – رحمه الله – (البث) أشد الحزن، سمي بذلك، لأنّه من صعوبته لا يطيق حمله، فيبثه، أي: ينشره. (البحر المحيط، 6/315)

وقال العز بن عبد السلام – رحمه الله -: ﴿بثي﴾؛ همي أو حاجتي، والبث: تفريق الهم بإظهار مافي النفس.

وقال الشوكاني – رحمه الله -: وقد ذكر المفسرون أن الإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب كان ذلك حزنا، وإن لم يقدر على كتمه كان ذلك بثاً. فالبث على هذا أعظم الحزن وأصعبه. (فتح القدير، 3/49)

وقال الطاهر بن عاشور – رحمه الله -: والبث: الهم الشديد وهو التفكير في السيئ والمسيء. والحزن: الأسف على فائت فبين الهم والحزن الهموم والخصوص الوجهي، وقد اجتمعا ليعقوب u لأنّه كان مغتماً بالتفكير في مصير يوسف u وما يعترضه من الكرب في غربته وكان آسفاً على فراقه. (التحرير والتنوير، 6/33)

– ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: قصر شكواه على التعلق بالله أي: يشكو إلى الله لا إلى نفسه ليجدد الحزن، فصارت الشكوى بهذا القصد ضراعة، وهي عبادة لأن الدعاء عبادة وصار ابيضاض عينيه الناشئ عن التذكر الناشئ عن الشكوى أثراً جسدياً ناشئاً عن عبادة، مثل تفطر أقدام النبي ﷺ من قيام الليل. وقال أبو زهرة – رحمه الله – ﴿إنما) من أدوات الحصر أي أنه لا يشكو همومه العارضة وأحزانه الدفينة إليكم بل يشكوها إلى الله وحده.

2- ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾:

هذه الجملة تحوي في نفسه كل الرجاء الذي يرجوه والأمل الذي أمله، وفيه دلالة لى أنه يعلم أن الله كاشف كربه، ومزيل همه، وهو علم من علم الله تعالى، لا من علم أحد، يعلمه بالإلهام أولاً، وبرجائه في الله ثانياً، وبرؤيا يوسف الصادقة ثالثاً، ففيها أنه رأى الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً له ساجدين، وتأويل الرؤيا أن يكون في ظل يوسف، وهو في عز مكين، وإن ذلك واقع لا محالة. (زهرة التفاسير، 7/3852)

– ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾: لينبههم إلى قصور عقولهم عن إدراك المقاصد العالية، ليعلموا أنهم دون مرتبة أن يعلّموه أو يلوموه، أي: أنا أعلم علما من عند الله علمنيه لا تعلمونه، وهو من علم النبوة، وحكي مثل ذلك عن شعيب في وسورة الشعراء وفي هذا تعريض برد تعريضهم بأنه يطمع في المحال بأن ما يحسبونه محالاً سيقع. (التحرير والتنوير، 6/33)

– وقال ابن العربي: وأحسن الكلام في الشكوى، سؤال المولى زوال البلوي، وذلك قول يعقوب u: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، من جميل صنعه وغريب لطفه، وعائدته على عبادته. (أحكام القرآن، 3/1104)

– وقال ابن تيمية – رحمه الله – فإنزال الفاقة بالناس أن يشكو إليهم ويترك الشكوى إلى الله، فلو كانت الاستغاثة بالمخلوق جائزة لجاز إنزالها بالناس، وقد قال يعقوب عليه السلام: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ﴾. وقال تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ۝ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب﴾ [الشرح: 7-8]. وقال النبي ﷺ لابن عباس: “إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله”.

ورأى الفضل بن عياض رجلاً يشكو إلى رجل فقال: يا هذا اشك من يرحم إلى من لا يرحمك. وقال بعضهم: ذكر الله الصبر الجميل، والهجر الجميل، والصفح الجميل؛ فالصبر الجميل الذي ليس فيه شكوى إلى المخلوق. والهجر الجميل الذي ليس فيه أذى، والصفح الجميل الذي ليس فيه عتاب. (الاستغاثة، ابن تيمية، 1/277).

إن يعقوب u طراز فريد من أولئك الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون، ويعلمون من الله ما لا يعلمه الآخرون. وقد صرح لأبنائه بشيء مما يعلمه وكاشفهم بما يحقق قوله حين أذن الله تقدير انتهاء البلوى ومجيء الفرح فكلف أولاده بالبحث عن يوسف وأخيه، فجمع بين الصبر الجميل، وقانون الأخذ بالأسباب، وأمر إخوة يوسف أن يعودوا مرة ثالثة إلى مصر للبحث عن يوسف وأخيه، وكأنه كان يتوقع وجود يوسف في مصر ويرى أن ما حدث لأخيه له علاقة بيوسف. (التفسير الموضوعي، 4/217)

 

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام”، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1972م.
  • البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1430ه.
  • فتح القدير، الشوكاني، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى، 1414ه.
  • التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، الدار التونسية، الطبعة الأولى، 1984م.
  • زهرة التفاسير، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى، 1432ه.
  • أحكام القرآن، ابن العربي، دار الكتب العلمية، الطبعة الثالثة، 1424ه.
  • الاستغاثة، ابن تيمية، دار المنهاج، الطبعة الأولى، 1426ه، (1/275- 277).
  • التفسير الموضوعي لسور القرآن، عبد الحميد محمود طهماز، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1435ه.
  • النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير الطبعة الألى، 2023م.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022