الإعجاز في وصف خلق الإنسان في القرآن الكريم
الحلقة الخامسة والستون
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
رجب 1441ه/مارس 2020م
قال تعالى: " إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" (ص ، الآية : 71 ـ 72).
حقاً لقد خلق الله الإنسان خلقاً جمع بين المادة والروح، ولقد أثبتت بحوث العلماء التي تم إجراؤها على هذا المخلوق أنه مكون من جسم مادي وروح شفافة، جسم مشدود إلى الأرض وروح تتطلع إلى السماء، جسم له دوافعه وشهواته وروح تسمو به نحو الله، جسم له مطالب الحيوان، وروح لها أشواق الملائكة، ونفس لها طبيعة مزدوجة تحتوي على معنويات الخير والشر، والتقوى والفجور، وبذلك تطابقت بحوث العلماء مع ما جاء من آيات الله بالنسبة للخلق والتكوين.
1 ـ الرحم ((القرار المكين)):
قال تعالى: " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ" (المؤمنون ، آية : 12 ـ 13).
ويقول تعالى " أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ" (المرسلات ، آية : 20 ـ 23).
وقال تعالى: " يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ" (الزمر ، آية : 6).
الآيات الكريمة تشير إلى أصل الخلقة من الماء المهين ـ النطفة التي تودع في القرار المكين الرحم ـ وتسمية الرحم بالقرار المكين الذي يستقر فيه الجنين إلى قدر معلوم حدده الله سبحانه وتعالى تسمية ذات دلالة، وقد وفر له وسائل الراحة والاستقرار والعناية الربانية التي تفوق التصور وتبرز هذه الوسائل ودقتها في الأمور التالية:
أ ـ الحوض وشكله:
يتكون من مجموعة من العظام متصلة ببعضها اتصالاً دقيقاً، فتكون مثل الصندوق الخشبي، ونظراً لاختلاف وظيفة حوض المرأة عن وظيفة حوض الرجل في قضية المحافظة على وضع الرحم المتنامي الذي يبلغ آلاف المرات في نهاية الحمل عن حجمه قبل الحمل، حيث لا تتجاوز سعة الرحم قبل الحمل لأكثر من (2,5) ميليلتر عند الأنثى البالغة، أما في نهاية الحمل فيتسع لسعة آلاف الميليلترات، لذا كان تجويف الحوض عند الأنثى أوسع وأقصر، وعظام الحوض أرق وأقل خشونة وأبسط تضاريساً، كل ذلك ليكون حصناً ودرعاً للرحم الذي يشتمل على هذه الدرة الثمينة التي تتجلى عظمة الخالق في تكوينها.
وتكوين عظام الحوض يتناسب تماماً مع ما يتطلب منها من القيام بعمل تنفرد به دون غيرها من عظام الهيكل، وهكذا يحفظ الحوض العظمي الرحم بداخله بحيث لا يصله شيء من الكدمات والهزات التي تتعرض لها المرأة، بل لو أصيبت المرأة في حادث أو سقطت من شاهق وتكسرت عظامها، فإننا نجد الرحم في أغلب الأحوال سليماً لم يمسه سوء.
والحوض على متانته له مفاصل أربعة يمكن من خلالها أن يتحرك قليلاً حتى يزداد اتساعه وخاصة عند الحمل والولادة بينما حوض الرجل لا يكاد يتزحزح.
ب ـ العضلات والأربطة:
تكاد العضلات تحيط بالرحم من جميع جوانبه لتحفظ توازنه وبقاءه معلقاً في منتصف الحوض، فمنها العضلات التي تمسكه من أعلى، ومنها ما تشده إلى أسفل، ومنها ما تجره يمنة ويسرة ومنها التي تشده إلى عظام الحوض، وإلى جهات أخرى من الأحشاء تعرف بالصفاقات الحشوية والصفاقات الجدارية.
وهذه الأربطة تتفاوت جميعاً في حفظ الرحم في موضعه الطبيعي، وفي نفس الوقت تسمح له بالحركة الحقيقية والنمو الهائل في فترة الحمل، ولكأنما الرحم جسر معلق تربطه مجموعة محكمة من الأربطة والأعمدة المتينة المحكمة، بل إنه أعظم من ذلك بكثير، إذ لا يمكن للجسر المعلق أن ينمو أو يغير وضعه وهو متصل بمكانه لا يبرحه، كما أن وجود وفرة من الأحشاء الطرية اللينة وامتلاء الحوض بها يهيء فراشاً وثيراً للرحم عند امتلائه بالجنين وتعاظمه خلال الأشهر الأخيرة من الحمل.
جـ ـ هرمون الحمل ((البروجسترون)):
ويؤثر هذا الهرمون على تقلصات عضلات الرحمن فيجعلها متئدة وقورة بدلاً من تلك الحركات النزقة الطائشة التي يسببها هرمون الأنوثة "الأوستروجين"، ولهرمون الحمل تأثير هام في استقرار الرحم في فترة الحمل، حتى يقذف الجنين وخاصة في أشهره الأولى.
وهكذا تتضافر هذه العوامل لجعل الرحم القرار المكين وهل هناك وصف أعظم من هذا الوصف، وتحديد أدق للوظيفة من التحديد الرباني لطبيعة تكوين الرحم ومهمته، إنه وصف الخالق لمخلوقه: " أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" (الملك ، آية : 14).
إنها العناية الإلهية بهذا المخلوق المعزز المكرم. إنه الله سبحانه وتعالى الذي قدر وأحكم، وإنه الإعجاز الباهر الذي جاء على لسان النبي الأمي " أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ" (المرسلات ، آية : 20 ـ 23).
س ـ الظلمات الثلاث:
يقول الطب الحديث عن الظلمات الثلاث ما يلي:
إنها ثلاثة أغشية تحيط بالجنين داخل الرحم وتسمى:
ــ غشاء السلى أو ((الأمنيون)) ويحيط بالجنين مباشرة.
ــ غشاء الكوريون ((الغشاء المشيمي)).
ــ الغشاء الساقط.
ــ غشاء السلى ((الأمنيون)):
هو عبارة عن كيس غشائي رقيق ومقفل يحيط بالجنين إحاطة تامة وبه سائل يزداد مع نمو الجنين.. والجنين يلعب وسط هذا السائل ويتقلب يمنة ويسرة، ويتشقلب رأساً على عقب، ويمسك بالحبل السري وهو أمان تام، وللسائل الأمنيوني فوائد جمة من أهمها:
ــ تغذية الجنين: حيث يحتوي السائل على مواد زلالية وسكرية وأملاح يمتصها الجنين مما يساعد على تغذيته ونموه.
ــ حماية الجنين ووقايته من الصدمات المفاجئة والحركات الخفيفة والسقطات التي تتعرض لها الأم.
ــ يحتفظ الجنين بحرارة ثابتة تقريباً فهو مكيف جيداً بحيث لا تزيد الحرارة ولا تقل في حدود ضئيلة جداً.
ــ يمنع السائل الأمنيوني غشاء الأمنيوني من الالتصاق بالجنين، وذلك لأن التصاق الغشاء بالجنين من العوامل الهامة في حدوث التشوهات الخلقية، فوجود السائل عامل مهم في تجنب هذه التشوهات الخلقية.
ـ غشاء الكوريون ((الغشاء المشيمي)):
وهو الغشاء الثاني من الأغشية التي تحيط بالجنين، والزغابات الكثيرة الموجودة في هذا الغشاء، ينتقل الغذاء والأوكسجين بواسطتها من الأم إلى الجنين، كما ينتقل غاز ثاني أكسيد الكربون والبولينا من الجنين إلى دم الأم.
وبداية تكوين هذا الغشاء عند تكون النطفة الأمشاج بعد تلقيح البويضة بالحيوان المنوي، وتنقسم البويضة الملقحة وتصبح مثل الكرة أو مثل ثمرة التوت وتسمى "التوتة" وتتكون من طبقات، فالطبقة الداخلية يتكون منها الجنين، أما الطبقة الخارجية فيتكون منها هذا الغشاء المشيمي وإليه الإشارة بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء" (الحج ، آية : 5).
فهل المضغة غير المخلقة التي تقوم بمهمة مصنع كامل لتهيئة الغذاء المبسط المناسب للجنين، وإبعاد الفضلات التي يطرحها إلى الدورة الدموية للأم حيث تفرزها بواسطة الكلى عن طريق البول.
ـ الغشاء الساقط:
وهو الغشاء الثالث الذي يحيط بالجنين من جميع جوانبه، وهو مكوّن من الغشاء المخاطي المبطن للرحم، وسمي الساقط لأنه يسقط ويخرج مع دم النفاس.
فسبحان من خلق فسوى، وقدر فهدى وجلّ جلاله وعظمت حكمته.
المصادر والمراجع:
* القرآن الكريم
* علي محمد محمد الصلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، صفحة (285:281).
* سليمان القرعاوي، التفسير العلمي المعاصر، صفحة 241.
* مصطفى مسلم، مباحث في إعجاز القرآن، صفحة 229، 230، 232.