النمل في القرآن الكريم
الحلقة الثانية والستون
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
رجب 1441ه/مارس 2020م
قال تعالى: "وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" (النمل ، آية : 17 ـ 19).
حشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير وهو موكب عظيم، وحشد كبير يجمع أوله على آخره " فَهُمْ يُوزَعُونَ" حتى لا يتفرقوا أو تشيع فيهم الفوضى فهو حشد عسكري منظم، يطلق عليه اصطلاح الجنود، إشارة إلى الحشد والتنظيم.
لقد سار الموكب، موكب سليمان من الجن والإنس والطير في ترتيب ونظام يجمع آخره على أوله، وتضم صفوفه، وتتلاءم خطاه، حتى إذا أتوا وادي كثير النمل، حتى لقد أضافه التعبير إلى النمل فسماه "وادي النمل" قالت نملة لها صفة الإشراف والتنظيم على النمل السارح في الوادي، ومملكة النمل، كمملكة النحل دقيقة التنظيم، تتنوع فيها الوظائف وتؤدى كلها بنظام عجيب، يعجز البشر غالباً على اتباع مثله، على ما أوتوا من عقل راقٍ وإدراك عال.
ــ قالت هذه النملة للنمل، بالوسيلة التي تتفاهم بها أمة النمل، وباللغة المتعارفة بينها، قالت: " ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" بكم.
1 ـ الإعجاز الإعلامي:
استخدمت النملة عناصر استمالة وإقناع على وجه معجز مبهر، ذلك في قوله على لسان النملة: " يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" (النمل ، آية : 18).
فنحن نرى النملة جمعت عشرة أجناس من الكلام في قولها حيث، نادت، ونبهت، وسمت، وأمرت، ونصحت، ونهت وخصت، وعمت وأشارت وأعذرت:
ــ نادت في قولها " يَا".
ــ ونبهت في قولها "أَيُّهَا ".
ــ وسمت في قولها "النَّمْلُ".
ــ وأمرت في قولها "ادْخُلُوا".
ــ ونصحت في قولها "مَسَاكِنَكُمْ".
ــ ونهت في قولها "لَا يَحْطِمَنَّكُمْ".
ــ وخصت في قولها "سُلَيْمَانُ".
ــ وعمت في قولها "وَجُنُودُهُ".
ــ وأشارت في قولها "وَهُمْ".
ــ وأعذرت في قولها "لَا يَشْعُرُونَ".
والحقيقة أن النملة في هذه الآيات القصيرة أدت وظائف إعلامية عديدة تمثلت فيما يلي:
ــ حق تجاه ربها عز وجل، حيث استرعيت على النمل فأفزعتهم.
ــ حق النملة تجاه سليمان حيث نراها نبهت على حق النمل.
ــ حق النملة تجاه نفسها، حيث أسقطت حق الله تعالى عنها، بنصيحتها له.
ــ حق النملة تجاه قومها، حيث قالت لقومها ادخلوا مساكنكم، وقدمت لهم النصيحة على طبق من ذهب كما يقولون.
ــ حق النملة تجاه الإنسانية وهي أنها أدت بفعلها حقاً قضته وحقاً لله أدته، وصار كلامها ونصحها مثلاً إلى أن تقوم الساعة.
لقد علمت النملة أن هذا القادم هو سليمان ـ وهو شخصية معروفة للنمل ـ حيث ذكرت اسمه تحديداً، ولم تقل هذا رجل قادم وهذا معناه في لغة الإعلام أن المشاهير دائماً يصنعون الأخبار المهمة.
ــ وعلمت أن معه جنوداً ولهم وظائف وصفات.
ــ وعلمت أن سليمان هو رئيسهم وقائدهم.
ــ وتوقعت أن يقوموا بتحطيم النمل أثناء سيرهم " لَا يَحْطِمَنَّكُمْ" .
ــ وبأنهم إن فعلوا ذلك فإنما سيكون فعلهم بغير قصد " وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ".
ــ ثم قامت بتوصيل مفهومها للموقف وتعليقها عليه، في شكل أمر بسرعة التحرك لتجنب الكارثة: " يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ".
ــ شرحت النملة إلى مجتمعها من النمل سبب الأمر بسرعة التحرك: " لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ" حتى تبرر لهم سبب أمرها بدخول مساكنهم.
ــ علمت النملة شعور سليمان وجنوده ما يشعرون به وما لا يشعرون وأنهم لا يشعرون بأنهم قادمون لتحطيم النمل.
ــ أبلغت النملة مجتمعها بذلك تبرئة لسليمان وجنوده من تهمة قصد القتل بدون سبب حتى لا ينفعل النمل ضدهم وربما تطوع بعضه بالدفاع أو الانتقام، فهاجم سليمان وجنوده.
2ـ التقديم الحي للوقائع :
إن المتأمل لآيات القرآن الكريم في سورة النمل المتعلقة بقصة سليمان مع النملة يؤكد أن وقائعها قدمت بصورة حية ديناميكية وكأن القارئ يرى بعينيه هذه الأحداث ويعيشها ويتجلى لنا ذلك في قوله:" وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ"، هنا يقدم الحدث بصورة حية، حيث نرى جنود سليمان وهم "يُوزَعُونَ" أي: يرد أولهم إلى آخرهم ويكفون، إذ يكف كل واحد منهم ويمنع من تخطي مرتبته ومكانه، وهي أعلى من التنظيم والتلاحم والانقياد، ومثل هذا المشهد يبهر العين، ويهز القلب ويسر الحبيب ويحزن ويضر الحاقد والعدو، كما يتضح التقديم الحي للوقائع أيضاً بقوله: " فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا" (النمل ، آية : 19)، وكأن ابتسامة الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور مع صوت خفي " وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ"، في إشارة إلى العدل والدين والرأفة.
3 ـ قالت نملة:
ذكر القرآن الكريم كلمة نملة بلفظ المؤنث، قالت نملة، وقد ثبت علمياً أن النملة الأنثى العقيمة هي التي تقوم بأعباء المملكة من جمع الطعام ورعاية الصغار والدفاع عن المملكة، وتخرج من الخلية للعمل، أما النمل المذكر فلا يظهر إلا في فترة التلقيح، ولا دور له إلا في تلقيح الملكات.
4 ـ وجود لغة تفاهم:
" قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ"، فقد اكتشف العلماء أن للنمل لغات تفاهم خاصة بينها، وذلك من خلال تقنية التخاطب من خلال الشفرات الكيماوية، وربما كان الخطاب الذي وجهته النملة إلى قومها هو عبارة عن شيفرة كيماوية، فقد أثبتت أحدث الدراسات العلمية أن لكل نوع من أنواع الحيوانات رائحة خاصة به، وداخل النوع الواحد هناك روائح إضافية تعمل بمثابة بطاقة شخصية أو جواز سفر للتعريف بشخصية كل حيوان، أو العائلات المختلفة أو أفراد المستعمرات المختلفة، والنمل يتميز برائحة خاصة تدل على العش الذي ينتمي إليه، والوظيفة التي تؤديها كل نملة في هذا العش.
والرائحة تعتبر لغة خفية أو رسالة صامتة تتكون مفرداتها من مواد كيماوية أطلق عليها العلماء اسم "فرمونات"، ويتم إنتاج "فرمونات النمل" من غدة قرب الشرج.
وقد وجد أنه إذا دخلت نملة غريبة مستعمرة لا تنتمي إليها، فإن النمل في هذه المستعمرة يتعرفن عليها عن طريق رائحتها ويعدها عدواً، ثم يبدأ في الهجوم عليها، ومن الطريف أنه في إحدى التجارب المعملية وجد إن إزالة الرائحة الخاصة ببعض النمل التابع لعشيرة معينة ثم إضافة رائحة خاصة بنوع آخر عدوَّ له، أدى إلى مهاجمته بأفراد من عشيرته نفسها، وفي تجربة أخرى غمس نملة برائحة نملة ميتة ثم أعيدت إلى عشها فلوحظ أن أقرانها يخرجونها من العش لكونها ميتة، وفي كل مرة تحاول فيها العودة يتم إخراجها ثانية، تمت إزالة رائحة الموت، فقد تم السماح لهذه النملة بالبقاء في العش، وحينما تعثر النملة الكاشفة على مصدر للطعام فإنها تقوم على الفور بإفراز "الفرمون" اللازم من الغدد الموجودة في بطنها لتعليم المكان ثم ترجع إلى العش، وفي طريق عودتها لا تنسى تعليم الطريق حتى يتعقبها زملاؤها، وفي الوقت نفسه يضيفون مزيداً من الإفراز لتسهيل الطريق أكثر فأكثر.
5 ـ ذكاء النمل:
لقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة علمية وهي ذكاء النمل وقدرته على المحاكمة العقلية والفكرية ومواجهة الأخطار وذلك من خلال هذه القصة التي حدثت مع نبي الله سليمان عليه السلام وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، فقد استطاعت نملة صغيرة تحديد مكان سليمان والطريق الذي سوف يمر به، وهذا لم يكن ليتم لولا هذه القدرات الخارقة التي يتمتع بها النمل، ولقد كشف العلم الحديث عن بعض العجائب من سلوك النمل الذكي وتطور جهازه العصبي، فعند دراسته تحت المجهر يظهر لنا أن دماغ النملة يتكون من فصين رئيسيين يشبه مخ الإنسان، ومن مراكز عصبية متطورة وخلايا حساسة.
إن الله تعالى لم يذكر النمل في القرآن الكريم إلا ليلفت انتباهنا إلى عظمة وروعة هذه الكائنات التي يحسبها الإنسان مخلوقات تافهة، ولكنها بحق مخلوقات منظمة ذات قدرات خارقة، تعمل ضمن خطة عمل واضحة، حيث يوزع العمل على أفراد الخلية، فيقوم كل فرد من أفراد المملكة بواجبه على أكمل وجه، من خلال البرنامج الفطري الذي أودعه الله تعالى في دماغه.
6 ـ وادي النمل:
لقد أشار القرآن الكريم إلى أن النمل من المخلوقات الاجتماعية، تعيش متعاونة متكاثفة في مستعمراتها ويشعر كل فرد منها بشعور الآخرين، ويظهر ذلك في سلوك النملة وفي إنذار قومها.
ويعيش النمل ضمن مستعمرات يقوم ببنائها، وقد يتجاوز فتكون أعداد كبيرة من المستعمرات مدينة أو وادياً للنمل، كما سماها القرآن الكريم، ففي جبال بنسلفانيا إحدى الولايات الأمريكية اكتشف أحد العلماء إحدى أكبر مدن النمل في العالم، وقد بني معظمها تحت الأرض، وتشغل مساحتها ثلاثين فداناً، حفرت فيها منازل النمل، تتخللها الشوارع والمعابر والطرق، وكل نملة تعرف طريقها إلى بيتها بإحساس غريب، وتشتمل كل مستعمرة من مستعمرات النمل على الطبقات والمرافق التالية:
ــ باب التهوية.
ــ مكان الحراسة لمنع دخول الغريب.
ــ أول طبقة لراحة العاملات في الصيف.
ــ مخزن إدخار الأقوات.
ــ مكان تناول الطعام.
ــ ثكنة الجنود.
ــ الغرف الملوكية حيث تبيض ملكة النمل.
ــ اسطبل لبقر النمل وعلقه.
ــ اسطبل آخر لحلب البقر.
ــ مكان تفقيس البيض.
ــ مكان تربية صغار النمل.
ــ مشتى النمل، وفي يمينه جبانة لدفن من يموت.
ــ مشتى الملكة.
ويمكن أن تصل أعماق مملكة النمل في بعض الأنواع التي تعيش في غابات الأمازون إلى (5 أمتار) واتساعها (7 أمتار)، تُنشئ النملات فيها مئات الغرف والأنفاق يُحفر وينقل قرابة (أربعين طناً) من التراب إلى الخارج إن الهندسة المعمارية للمملكة وحدها معجزة من معجزات الخلق.
7 ـ جمع المواد الغذائية:
ولأعضاء مجتمع النمل طرق فريدة في جمع المواد الغذائية، وتخزينها والمحافظة عليها، فإذا لم تستطع النملة حمل ما جمعته في فمها كعادتها لكبر حجمه، حركته بأرجلها الخلفية ورفعته بذراعيها، ومن عاداتها أن تقضم البذور قبل تخزينها حتى لا تعود إلى الإنبات مرة أخرة، وكي يسهل عليها إدخالها في مستودعاتها، وهناك بعض البذور التي إذا كُسرت إلى فلقتين فإن كل فلقة يمكنها أن تنبت من جديد مثل بذور الكزبرة، لذلك فإن النمل يقوم بتقطيع بذرة الكزبرة إلى أربع قطع كي لا تنبت، وإذا ما ابتلت البذور بفعل المطر أخرجتها إلى الهواء والشمس لتجف، ولا يملك الإنسان أمام هذا السلوك الذكي للنمل إلا أن يسجد لله الخالق العليم الذي جعل النمل يدرك أن تكسير جنين الحبة وعزل البذرة عن الماء والرطوبة يجعلها لا تنبت.
8 ـ أبقار النمل:
ويضيف العلم الحديث حقائق جديدة عن أبقار النمل وزراعتها، فقد ذكر أحد علماء التاريخ الطبيعي وهو "رويال ويكسون" أنه ظل يدرس مدينة النمل حوالي عشرين عاماً في بقاع مختلفة من العالم، فوجد نظاماً لا يمكن أن نراه في مدن البشر، وراقبه وهو يرعى أبقاره، وما هذه الأبقار إلا خنافس صغيرة رباها النمل، في جوف الأرض زمناً طويلاً حتى فقدت في الظلام بصرها، وإذا كان الإنسان قد سخر عدداً محدوداً من الحيوانات لمنافعه، فإن النمل قد سخر مئات من الأجناس من حيوانات أدنى منه جنساً، ونذكر على سبيل المثال "بقّ النبات"، تلك الحشرة الصغيرة التي تعيش على النبات ويصعب استئصالها لأن أجناساً كثيرة من النمل ترعاها، يرسل النمل الرسل لتجمع له بيوض هذا البقّ حيث تعتني به وترعاه حتى يفقس وتخرج صغاره، ومتى كبرت درت هذه اليرقات سائلاً حلواً مؤلفاً من مواد سكرية يمكن أن نسميها بـ"عسل النمل"، ويقوم على حلبه جماعة من النمل لا عمل لها إلا حلب هذه الحشرات بمسها بقرونها، وتنتج هذه الحشرات 48 قطرة من العسل كل يوم، وهذا ما يزيد مائة ضعف عما تنتجه البقرة إذا قارنا حجم الحشرة بحجم البقرة.
المصادر والمراجع:
* القرآن الكريم
* علي محمد محمد الصلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، صفحة (270:262).
* محمد وهدان، الإعجاز الإعلامي في القرآن الكريم، صفحة 482:478.