معجزة خلق الأنعام في القرآن الكريم
الحلقة السادسة والخمسون
بقلم: د. علي محمد الصلابي
رجب 1441ه/فبراير 2020م
قال تعالى: "وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (النحل ، آية : 5 ـ 6).
والأنعام المتعارف عليها في الجزيرة كانت هي الإبل والبقر والضأن والمعز، أما الخيل والبغال والحمير فللركوب والزينة، والقرآن الكريم إذ يعرض هذه النعمة هنا ينبه إلى ما فيها من تلبية لضرورات البشر وتلبية لأشواقهم كذلك، ففي الأنعام دفء من الجلود والأصواف والأوبار والأشعار، ومنافع في هذه وفي اللبن واللحم وما إليها، ومنها تأكلون لحماً ولبناً وسمناً، وفي حمل الأثقال إلى البلد البعيد لا يبلغونه إلا بشق الأنفس، وفيها كذلك جمال عند الإراحة في المساء وعند السرح في الصباح، جمال الاستمتاع بمنظرها فارهة رائعة صحيحة سمينة، وأهل الريف يدركون هذا المعنى بأعماق نفوسهم ومشاعرهم أكثر مما يدركوه أهل المدينة.
وهذه اللفتة لها قيمتها في بيان نظرة القرآن ونظرة الإسلام للحياة، فالجمال عنصر أصيل في هذه النظرة وليست النعمة هي تلبية الضرورات من طعام وشراب وركوب، بل تلبية الأشواق الزائدة على الضرورات تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنساني المرتفع على ميل الحيوان وحاجة الحيوان.
وجاء التعبير في" تُرِيحُونَ " و"تَسْرَحُونَ" والروح رجوعها بالعشي من المراعي، والسراح: مسيرها إلى مراعيها بالغداة، يقال: سرحت الإبل أسرحها سرحاً وسروحاً: إذا ذُهب بها إلى المرعى.
وقدَّم الإراحة على التسريح: لأن منظرها عند الإراحة أجمل، وأحسن لكونها في تلك الحالة قد نالت حاجتها من الأكل والشرب فعظمت بطونها، وانتفخت ضروعها.
و" تُرِيحُونَ": فعل مضارع يفيد تجدد مشهد جمال الأنعام في كل رواح وكل سراح، ولذلك جاء التعبير بصيغة المضارع ليحمل السامع وكأنه يشاهده أمامه، كما فيه تجدد المشهد واستمراره، و"َحِينَ" التي تقصده الآية الأولى: أن يُفهم على أنه الوقت كله، أي أن لهذه الأنعام جمال في كل وقت إراحتها، ولها جمال يمتد مع امتداد ذهابها، فلها جمال وهي ترد المساقي في طريق رواحها، ولها جمال وهي تنتشر هنا وهناك، ولها جمال وهي تسرع إلى العشب والماء، ولها جمال وهي تتجمع، ولها جمال وهي تسير بعضها إلى بعض خلف قيادة إحداهن، كما أن لها جمال وهي تقبل إلى راعيها لتستجدي منه شيئاً، أو ليهش لها أوراق الأشجار، والجمال في هذه الأنعام يكمن أيضاً في جمال التركيب وجمال تناسب الأعضاء وجمال تعدد الألوان حيناً واتحادها حيناً آخر، كما يمكن في سلاسة الحركة والعدو طمعاً أو هرباً، ولأهمية الجمال بشكل عام وفي الأنعام بشكل خاص، فإن الآيات السابقة قدمت ذكر "الجمال" قبل ذكر منفعة حمل الأثقال، فقبل أن يقول: " وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ" قال: " وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ".
ب ـ الأنعام من أحب الشهوات إلى الإنسان:
والجمال عنصر أصيل في الأنعام، ولذلك جاء ذكرها ضمن مهرجان حاشد يستعرض فيه القرآن الكريم مجموعة من الزينات المختلفة حيث تأتي هذه الأنعام واحدة من المفردات المهمة في هذا المهرجان الناطق بجمال وروعة هذه الزينات، قال تعالى: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ" (آل عمران ، آية : 14).
في آية واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان: النساء، والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام وهي خلاصة للرغائب الأرضية، إما بذاتها، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى، وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر، جنات تجري من تحتها الأنهار، وأزواج مطهرة، وفوقها رضوان من الله، وذلك كله لمن يمد بصره من لذائذ الأرض ويصل قلبه بالله.
قال تعالى: "قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ" (آل عمران، آية : 15 ـ 17).
" زُيِّنَ لِلنَّاسِ" وصياغة للمجهول هنا تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمن هذا الميل، فهو محبب ومزين، وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه، ففي الإنسان هذا الميل إلى هذه الشهوات، وهو جزء من تكوينه الأصيل لا حاجة إلى إنكاره، ولا استنكاره في ذاته، فهو ضروري للحياة البشرية، كما تتأصل وتنمو وتطرد، ولكن الواقع يشهد كذلك بأن في فطرة الإنسان جانباً آخر يوازن ذلك الميل، ويحرس الإنسان أن يستغرق في ذلك الجانب وحده، وأن يفقد قوة النفخة العلوية، أو مدلولها، وإيحاءها هذا الجانب الآخر هو جانب الاستعداد للتسامي، والاستعداد الأول، وينقيه من الشوائب، ويجعله في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعاتها القريبة، على الروح الإنسانية وأشواقها البعيدة والاتجاه إلى الله، وتقواه هو خيط الصعود والتسامي إلى تلك الأشواق البعيدة.
والنساء والبنون شهوة من شهوات النفس الإنسانية قوية، وقد قرن إليها "الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ" " مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ"، ونهم المال هو الذي "ترسمه" "الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ" تلقي ظلاً خاصاً هو المقصود ظل النهم الشديد لتكديس الذهب والفضة، ذلك أن التكديس ذاته شهوة، بغض النظر عما يستطيع المال توفيره لصاحبه من الشهوات الأخرى؟.
ثم قرن النساء والبنين والْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ" والخيل كانت وما تزال حتى في عصر الآلة المادي اليوم ـ زينة محببة مشتهاة، ففي الخيل جمال وقوة وانطلاق، وفيها زكاء وإلفة ومودة، وحتى التي لا يركبونها فروسية، يعجبهم مشهدها، ما دام في كيانهم حيوية تجيش بمشهد الخيل الفتية.
وقرن إلى تلك الشهوات الأنعام والحرث وهما يقترنان عادة في الذهن وفي الواقع، الأنعام والحقول المخصبة، والحرث شهوة بما فيه من مشهد الإنبات والنماء وإن تفتح الحياة في ذاته لمشهد حبيب، فإذا أضيفت إليه شهوة الملك كانت الحرث والأنعام شهوة.
وهذه الشهوات التي ذكرت هنا هي نموذج لشهوات النفوس، يمثل شهوات البيئة التي كانت مخاطبة بهذا القرآن، ومنها ما هو شهوة كل نفس على مدار الزمان، والقرآن يعرضها ثم يقرر قيمتها الحقيقية، لتبقى في مكانها هذا لا تتعداه، ولا تطغى على ما سواه ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" "وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ".
المصادر والمراجع:
* القرآن الكريم
* علي محمد محمد الصلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، صفحة (229:224).
* أحمد النظاري، الجمال الحسي في القرآن الكريم، صفحة 179.