الإثنين

1446-12-06

|

2025-6-2

خلوة النبي (صلى الله عليه وسلم) في غار حراء ونزول الوحي

مختارات من موسوعة السيرة النبوية والخلفاء الراشدين

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (24)

 

قبيل النُّبوَّة حُبِّب إلى نفس النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الخلوة؛ ليتفرغ قلبه، وعقله، وروحه إلى ما سَيُلقى إليه من أعلام النُّبوَّة، فاتَّخذ من غار حراء مُتَعَبَّداً؛ لينقطع عن مشاغل الحياة ومخالطة الخلق، استجماعاً لقواه الفكريَّة، ومشاعره الرُّوحية، وإحساساته النَّفسيَّة، ومداركه العقليَّة، تفرغاً لمناجاة مبدع الكون، وخالق الوجود. والغار الذي كان يتردَّد عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يبعث على التأمُّل، والتفكُّر، تنظر إلى منتهى الطَّرْف فلا ترى إلا جبالاً كأنَّها ساجدةً متطامنةً لعظمة الله، وإلا سماءً صافيةَ الأديم، وقد يرى مَنْ يكون فيه مكَّة إذا كان حادَّ البصر.

كانت هذه الخلوة الَّتي حُببت إلى نفس النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لوناً من الإعداد الخاصِّ، وتصفية النَّفس من علائق المادِّيَّة البشريَّة، إلى جانب تعهُّده الخاص بالتَّربية الإلهيَّة، والتَّأديب الرَّبَّانيِّ في جميع أحواله، وكان تعبُّده صلى الله عليه وسلم قبل النُّبوَّة بالتفكُّر في بديع ملكوت السَّموات، والنَّظر في آياته الكونيَّة الدَّالة على بديع صنعه، وعظيم قدرته، ومحكم تدبيره، وعظيم إبداعه.

وقد أخذ بعض أهل السُّلوك إلى الله من ذلك فكرة الخلوة مع الذِّكر والعبادة في مرحلة من مراحل السُّلوك؛ لتنوير قلبه، وإزالة ظلمته، وإخراجه من غفلته، شهوته، وهفوته، ومن سنن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم سنَّة الاعتكاف في رمضان، وهي مهمَّةٌ لكلِّ مسلمٍ سواءً كان حاكماً، أو عالماً، أو قائداً، أو تاجراً؛ لتنقية الشَّوائب الَّتي تعلق بالنُّفوس والقلوب، ونصحِّح واقعنا على ضوء الكتاب والسُّنَّة، ونُحاسِب أنفسنا قبل أن نُحاسَب.

ويمكن لأهل فقه الدَّعوة أن يعطوا لأنفسهم فترةً من الوقت للمراجعة الشَّاملة، والتَّوبة، والتأمُّل في واقع الدَّعوة وما هي عليه من قوَّةٍ، أو ضعفٍ، واكتشاف عوامل الخلل، ومعرفة الواقع بتفاصيله، خيره وشرِّه. ولا مانع من العزلة في بعض الأحيان إذا فشا الفساد، وأصبحت الدُّنيا مؤثرةً، ومتابعة الهوى مطلباً، ولابدَّ أن تكون إيجابيةً وليست سلبية، وليتابع الطَّريق بعدها بما يحمله من الحقِّ.

وفي قول السَّيدة عائشة رضي الله عنها: «فيتحنَّث اللياليَ ذوات العدد»، يقول الشيخ محمَّد عبد الله دراز: «هذا كناية عن كون هذه الليالي لم تصل إلى نهاية القلَّة، ولا إلى نهاية الكثرة، وما زال هذا الهدي الذي كان عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قبل البعثة من التوسُّط، والاقتصاد في الأعمال، شعاراً للملَّة الإسلامية، ورمزاً للهدي النَّبويِّ الكريم، بعد أن أرسله الله رحمةً للعالمين».

جاء الملك، فقال: اقرأ، قال: «قلت: ما أنا بقارئ... فأخذني فغطَّني الثَّالثة، ثمَّ أرسلني، فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾ [العلق: 1 - 4]» .

لقد كانت هذه الآيات الكريمات المباركات أوَّل شيءٍ نزل من القرآن الكريم، وفيها التَّنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقةٍ، وإنَّ من كرم الله تعالى أن علَّم الإنسان ما لم يعلم، فشرَّفه وكرَّمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به آدم عليه السلام على الملائكة. والعلم تارةً يكون في الأذهان، وتارةً يكون في اللِّسان، وتارةً يكون بالكتابة بالبنان، وبهذه الآيات كانت بداية نبوَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، لقد كان هذا الحادث ضخماً، ولقد عبَّر عنه سيِّد قطب - رحمه الله - في ظلاله، فقال: «إنَّه حادثٌ ضخمٌ جداً، ضخمٌ إلى غير حدٍّ، ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته؛ فإنَّ جوانب كثيرةً منه ستظلُّ خارج تصوُّرنا! إنَّه حادثٌ ضخمٌ بحقيقته، وضخمٌ بدلالته، وضخمٌ بآثاره في حياة البشريَّة جميعاً، وهذه اللَّحظة الَّتي تمَّ فيها هذا الحادث تعدُّ - بغير مبالغةٍ - أعظم لحظةٍ مرَّت بهذه الأرض في تاريخها الطَّويل.

ما حقيقة هذا الحادث الَّذي تمَّ في هذه اللَّحظة؟حقيقته: أنَّ الله - جلَّ جلاله، العظيم، الجبَّار، القهَّار، المتكبِّر، مالك الملك كلِّه - قد تكرَّم - في عليائه - فأراد أن يرحم هذه الخليقة المسمَّاة بالإنسان، القابعة في ركن من أركان الكون، لا يكاد يُرى، هذا الرُّكن الَّذي يُسمَّى الأرض. وكرَّم هذه الخليقة باختيار واحدٍ منها ليكون ملتقى نوره الإلهي، ومستودع حكمته، ومهبط كلماته، وممثّل قدره الَّذي يريده - سبحانه - لهذه الخليقة».

كانت بداية الوحي الإلهي فيها إشادة بالقلم، وخطره، والعلم ومنزلته في بناء الشُّعوب، والأمم، وفيها إشارةٌ واضحةٌ بأنَّ من أخصِّ خصائص الإنسان العلمَ والمعرفة.

وفي هذا الحادث العظيم تظهر مكانـة، ومنزلة العلم في الإسلام، فأوَّل كلمةٍ في النُّبـوَّة تصل إلى رسـول الله صلى الله عليه وسلم هي الأمـر بالقراءة: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾

[العلق: 1].

وما زال الإسلام يحثُّ على العلم، ويأمر به، ويرفع درجة أهله، ويميِّزهم على غيرهم. قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: 11] وقال سبحانه: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخرةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9] .

إنَّ مصدر العلم النافع من الله - عزَّ وجلَّ - فهو الَّذي علَّم بالقلم، وعلَّم الإنسان ما لم يعلم، ومتى حادت البشريَّة عن هذا المنهج، وانفصل علمها عن التقيُّد بمنهج الله تعالى؛ رجع علمها وبالاً عليها، وسبباً في إبادتها.

 

مراجع الحلقة:

- علي محمد محمد الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2004، ص 93-97.

- محمَّد الصادق عرجون، محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1/254) - (1/469).

- السِّيرة النَّبويَّة ، لأبي شهبة (1/256).

- سعيد حوَّى، الأساس في السنَّة وفقهها ـ السِّيرة النَّبويَّة ، (1/195).

- تفسير ابن كثير (4/528).

- في ظلال القرآن (6/3936).

- يحيى اليحيى، الوحي وتبليغ الرِّسالة، ص 34.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022