الإثنين

1446-12-06

|

2025-6-2

الشِّدَّة الَّتي تعرَّض لها النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) عند نزول الوحي

مختارات من موسوعة السيرة النبوية والخلفاء الراشدين ..

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (25)

 

قام جبريل (عليه السلام) بضغط النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مراراً حتَّى أجهده، وأتعبه، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى من الوحي شدَّةً، وتعباً، وثقلاً، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾ [المزمل: 5] كان في ذلك حكمةٌ عظيمةٌ؛ لعلَّ منها: بيان أهمية هذا الدِّين، وعظمته، وشدَّة الاهتمام به، وبيانٌ للأمَّة أنَّ دينها الَّذي تتنعم به ما جاءها إلا بعد شدَّةٍ، وكرب.

إنَّ ظاهرة الوحي معجزةٌ خارقةٌ للسُّنن، والقوانين الطَّبيعيَّة، حيث تلقَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كلام الله «القرآن» بواسطة الملك جبريل عليه السلام، وبالتَّالي فلا صلة لظاهرة الوحي بالإلهام، أو التأمُّل الباطنيِّ، أو الاستشعار الدَّاخلي، بل إنَّ الوحي يتمُّ من خارج ذات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وتنحصر وظيفته بحفظ الموحى، وتبليغه، وأمَّا بيانه، وتفسيره فيتمُّ بأسلوب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كما يظهر في أحاديثه، وأقواله صلى الله عليه وسلم .

إنَّ حقيقـة الوحي هي الأساس الَّذي تترتَّب عليـه جميع حقائـق الدِّين، بعقائده، وتشريعاتـه، وأخلاقـه؛ ولذلـك اهتمَّ المستشرقون - والملاحدة من قبلهم - بالطَّعن والـتَّشكيـك في حقيقـة الوحي، وحاولوا أن يُـؤوِّلوا ظاهرة الوحي، ويحرِّفوها عن حقيقتها، عمَّا جاءنا في صحاح السُّنَّة الشَّريفة، وحدَّثنا به المؤرِّخون الثِّقات، فقائل يقول: إنَّ محمَّداً صلى الله عليه وسلم تعلَّم القرآن، ومبادئ الإسلام من بحيرا الرَّاهب، وبعضهم قال: بأنَّ محمَّداً كان رجلاً عصبياً، أو مصاباً بداء الصَّرع.

والحقيقة تقول: إنَّ محمَّداً صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء فوجئ بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له: اقرأ، حتَّى يتبيَّن: أنَّ ظاهرة الوحي ليست أمراً ذاتياً داخلياً مَرَدُّهُ إلى حديث النَّفس المجرَّد؛ وإنَّما هو استقبالٌ وتلقٍّ لحقيقةٍ خارجيَّةٍ لا علاقة لها بالنَّفس، وداخل الذات. وضمُّ الملك إيَّاه، ثمَّ إرساله ثلاث مرَّات قائلاً في كلِّ مرَّة: اقرأ، يعتبر تأكيداً لهذا التلقِّي الخارجيِّ، ومبالغةً في نفي ما قد يتصوَّر، من أنَّ الأمر لا يعدو كونه خيالاً داخلياً فقط.

ولقـد أصيب النَّبـيُّ صلى الله عليه وسلم بالرُّعب، والخوف ممَّا سمع، ورأى، وأسرع إلى بيتـه يرجف فؤاده، وهذا يدلُّ على أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن متشوِّقاً للرِّسالة التي سيكلف بثقلها وتبليغها للنَّاس، وقد قال الله تعالى تأكيداً لهـذا المعنى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقَيمٍ *صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ﴾ [الشورى: 52 - 53] وقال: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقرآن غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [يونس: 15 - 16] .

لقد تساقطت آراء المشكِّكين في حقيقة الوحي أمام الحديث الصَّحيح الَّذي حدَّثتنا به السَّيدة عائشة رضي الله عنها، وقد استمرَّ الوحي بعد ذلك يحمل الدَّلالة نفسها على حقيقة الوحي؛ وأنَّه ليس كما أراد المشكِّكون. وقد أجمل الدُّكتور البوطي هذه الدَّلالة فيما يلي:

1 - التمييز الواضح بين القرآن، والحديث؛ إذ كان يأمر بتسجيل الأوَّل فوراً، على حين يكتفي بأان يستودع الثَّاني ذاكرة أصحابه؛ لا لأنَّ الحديث كلام من عنده لا علاقة للنُّبوَّة به؛ بل لأنَّ القرآن موحى به إليه بألفاظه، وحروفه بواسطة جبريل عليه السلام، أما الحديث؛ فمعناه وحي من الله - عزَّ وجلَّ - ولكن لفظه، وتركيبه من عنده صلى الله عليه وسلم ، فكان يحاذر أن يختلط كلام الله - عزَّ وجلَّ - الَّذي يتلقَّاه من جبريل بكلامه هو صلى الله عليه وسلم .

2 - كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُسأل عن بعض الأمور، فلا يُجيب عنها، وربما مرَّ على سكوتـه زمنٌ طويلٌ، حتَّى تنزل آيـة من القرآن في شأن سؤالـه. وربما تصرَّف الرَّسول صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور على وجهٍ معين، فتتنزل آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه، وربما انطوت على عَتْبٍ، أو لومٍ له.

3 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمياً، وليس من الممكن أن يعلم إنسان بواسطة المكاشفة النَّفسيَّة حقائق تاريخيَّةً، كقصَّة يوسف عليه السلام، وأمِّ موسى حينما ألقت وليدها في اليمِّ، وقصَّة فرعون، ولقد كان هذا من جملة الحكم في كونه صلى الله عليه وسلم أمياً. يقول تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾

[العنكبوت: 48].

4 - إنَّ صدق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أربعين سنةً مع قومه، واشتهاره فيهم بذلك يستدعي أن يكون صلى الله عليه وسلم من قبل ذلك صادقاً مع نفسه، ولذا فلابدَّ أن يكون قد قضى في دراسته لظاهرة الوحي على أيِّ شكٍّ يخايل لعينيه، أو فكره، وكأنَّ هذه الآية جاءت رداً لدراسته الأولى لشأن نفسه مع الوحي: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾

[يونس: 94] .

ولهذا روي: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال بعد نزول هذه الآية: «لا أشكُّ، ولا أسأل» [عبد الرزاق (10211) والسيوطي في الدر المنثور (4/389)] .

 

مراجع الحلقة:

- علي محمد محمد الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2004، ص 97-99.

- يحيى اليحيى، الوحي وتبليغ الرِّسالة، ص 30-31.

- محمد سعيد رمضان البوطي، فقه السِّيرة النَّبويَّة، ص 64.

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب السيرة النبوية في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022