الخيل في القرآن الكريم
الحلقة التاسعة والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رجب 1441ه/مارس 2020م
الخيل من الحيوانات التي تتمتع بدرجة عالية من الجمال، فجمالها يفوق جمال غيرها من الحيوانات في الشكل واللون والحركة وهذه حقيقة ثابتة لا أظن أحداً من الناس يغفلها، فضلاً عن أن ينكرها، قد زينها الله للناس وحببها إليهم جميعاً، قال تعالى: " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ" (آل عمران ، آية : 14).
وتسويمها حسنها.
وذكر القرآن الكريم جمال البغال والحمير والخيل، فقال تعالى: " وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" (النحل ، آية : 8).
وتكلم القرآن الكريم عن مهرجان استعراضي عظيم أقيم لخيل نبي الله سليمان عليه السلام، عرض يليق بنبي الله سليمان، سليمان النبي الملك الذي استجاب الله له دعوته، ووهب له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، قال تعالى: "} وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ" (ص ، آية : 30 ـ 33).
العرض: هو الإمرار والإحضار أمام الرائي.
الصافنات الجياد: الخيل وصفوفها ووقوفها وبسطها قوائمها.
والجياد: الخيل جمع جواد وهو السابق وهو الفرس إذا كان سريع العدو.
والمسح حقيقته: إمرار اليد على الشيء لإزالة ما عليه من غبش أو ماء أو غبار وغير ذلك مما لا يراد بقاؤه على الشيء ويكون باليد أو بخرقة أو ثوب.
والسوق: جمع ساق، وهو ما أعلى القدم.
والأعناق: جمع عنق، وهو الرقبة.
والصافنات من الخيل: القائم على ثلاثة قوائم، وقد أقام الرابعة على طرف الحافر، سماها القرآن الكريم ذلك وهي تقف على ثلاث وترفع الرابعة في حركة إيقاعية جميلة.وعن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره في قوله " فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ" (ص ، آية : 33).
أي: طفق يمسح أعراف الخيل وسوقها بيده حباً لها.
وقال الطاهر بن عاشور: وهذا هو الجاري على المناسب لمقام نبي والأوفق بحقيقة "المسح".
وقوله: " رُدُّوهَا عَلَيَّ" متصلاً بقوله "ِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ"، أي: بعد أن استعرضها وانصرفوا بها لتأوي إلى مزاودها. قال: " رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ" إكراماً لها ولحبها، وكان هذا العرض في غاية الجمال، والروعة، والبهجة، مما زاد سليمان ـ عليه السلام ـ حباً لها وإعجاباً بجمالها وحسن عرضها، فقال: "ِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ"، والخير هنا: الخيل قال الطبري: عني بالخير في هذا الموضع الخيل، والعرب فيما بلغني تسمِّي الخيل الخير، كما يسمون المال الخير.
أي: إني أحببت الخيل لأجل أنها تذكرني بربي: "لا أحبها لأجل الدنيا، ولأجل نصيب النفس، وإنما أحبها لأمر الله تعالى.
إذن فقد كان حب سليمان عليه السلام للخيل نوعاً من أنواع ذكر الله خالقها: إذ أن ذلك من ذكر ربه أو لأن ذلك النظر نوع من ذكر ربه أو لأن الله أمره أن يستروح بالجمال في الطبيعة وفي المخلوقات استرواحاً لا يؤذي أحداً، وإنما استرواح متسق مع ذكر الله دائماً. ومثله قوله تعالى: " لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ" (الرعد ، آية : 11) من أمر الله: أي بأمر الله، أو من أجل أمر الله، ويظهر أن هذا العرض وهذا الابتهاج قد استمر إلى أن غابت الشمس وبعدها قال نبي الله سليمان: " رُدُّوهَا عَلَيَّ" أي الخيل: ولسان حاله يقول: لأشكرها على هذا العرض الجميل العظيم الذي جاءت به، فجعل يمسح سوقها، وأعناقها مسحة شكر وإكبار وعرفان بالجميل، والخيل تتجاوب معه في هذا الشكر كعادتها مع من يمسح أعناقها وسوقها، وتنعم بهذا المسح وتستريح وتحس بالسكينة، وهذا الارتياح إنما هو تعبير منها على حبها لهذا المسح.
هذا هو التفسير الأقرب للصواب لأنه ينسجم وروح الإسلام، على خلاف التفسير الخاطيء، الذي أورده كثير من المفسرين والذي يزعم أن سليمان ـ عليه السلام ـ قام بقطع أعناق وسوق هذه الخيل، بزعم أنها شغلته وألهته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس، وذلك التفسير ليس صحيحاً لأن قتل الخيل ـ البريئة الجميلة ـ بهذا الشكل غير الحسن والمنافي لتعاليم الإسلام، لا يليق أن يُنْسب أو يُلصق بإنسان عادي لديه أدنى إحساس أو أدنى رحمة أو أدنى الإيمان، فكيف يلصق بنبي يوحى إليه: نبيّ يملك من الإحساس والشعور والرقة والرحمة والشفقة الشيء الكثير ـ قد أوقفته وحيدة ذات يوم نملة خافت على نفسها وأخواتها أن يحطمها سليمان وجنوده وهم لا يشعرون، فما كان منه إلا أن أشفق عليها وتبسم ضاحكاً من قولها، فكيف هنا يقطع أعناق الخيل، لا ذنب لها في غفلة سليمان عن صلاة العصر ـ كما زعم أصحاب هذا القول ـ ومن هنا نقول: إن القول بتقطيع سليمان سوق وأعناق الخيل قول مردود من عدة أوجه يمكن تلخيصها في النقاط التالية التي تمثل:
أ ـ طبيعة نبي الله سليمان الشفاقة التي تمنعه أن يدوس نملة أو يُحطمها فضلاً في أن يعذب خيلاً بتقطيع أعناقها وسوقها، دليلنا على ذلك شهادة النملة عندما قالت: "وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ" (النمل ، آية : 18)، بمعنى أنهم لو شعروا بوجود نمل فلن يُحطِّموها بأقدامهم، فهم سليمان وجنده.
ب ـ تقدير وحُبّ نبيِّ الله سليمان للجمال، كما هو واضح في قصّته مع الخيل، الأمر الذي يمنعه أن يعذب خيلاً فاضت عليه حسناً وجمالاً يعرضها، فهو لم يحبها فحسب بل أحبها، وأحب حبه لها أيضاً.
ت ـ لفظ: "المسح" في الآية: الذي يعني "المسح" على حقيقته ولا يوجد ما يصرفه عن معناه الحقيقي أو إلى القطع كما يزعم البعض وأنه لو كان معنى: مسح السوق والأعناق قطعها لكان قوله تعالى: " وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ" تعني: اقطعوها، وهذا لا يقوله عاقل.
ج ـ لو افترضنا جدلاً أن الله أجاز لسليمان قتلها بذبح أعناقها، فلماذا عذَّبها إذا بقطع سيقانها وقد حرّم الله عليها ذلك التعذيب، وغيره، بل أمره بالإحسان في كل شيء حتى في القتل.
ح ـ إن صلاة العصر لم تكن مفروضة في شريعة سليمان، فكيف يقال أنها فاتته وهي في حكم المعدوم، حيث كان هو على ملة إبراهيم التي كانت فيها الصلاة فقط، في الغدو والعشي.
س ـ إن القائلين بهذا القول جمعوا على سليمان أنواعاً من الأفعال المذمومة منها، أنه ترك الصلاة، واستولى عليه الاشتغال بحب الدنيا، وحب الدنيا رأس كل خطيئة وأنه لم يشتغل بالتوبة والإنابة من هذا الذنب العظيم "كما زعموا" بل أتبع هذه المعاصي بعقر الخيل "سوقها وأعناقها"، وهذه كلها من الكبائر نسبوها إلى سليمان ـ عليه السلام ـ مع أن لفظ القرآن الكريم لا يدل على شيء منها.
ش ـ إن هذه الرواية إسرائيلية ولم تصح عند أهل العلم، وقد ثبت ـ كما رأينا تناقضها مع روح الإسلام ورحمته.
والعجيب في الأمر، كيف قبل الناس ما شاع من هذه الوجوه الخاطئة مع أنها تعارض العقل والنقل وليس لمن أثبتها أدنى شبهة تؤيد قوله فضلاً عن حجة وبرهان.
ك ـ وجه الإعجاز في الصافنات الجياد؟
ورد في القرآن الكريم وصف: " الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ": لخيل نبي الله سليمان ـ على نبينا وعليه من الله السلام ـ وهو مدح للخيل واقفة " الصَّافِنَاتُ" وجارية "الْجِيَادُ"، فإذا وقفت كان ذلك على ثلاثة قوائم وعلى طرف القائم الرابع ذلك من علامات السكون، والاطمئنان، والثقة بالنفس والخيلاء بما أفاء الله تعالى ـ عليها، من قوة وجمال وذكاء، وقدرات على الحس والإدراك، وإذا جرت كانت في عدوها سباقة راكضة، وهذه من المعارف التي بدأ البحث في علم سلوك الحيوان في التوصل إليها، كذلك أثبت علم سلوك الحيوان أن المسح بسوق الخيل وأعناقها يلعب دوراً مهماً في ترويضها وتطمينها وإشعارها بالود والمحبة، من هنا فإن وصف القرآن الكريم لجياد سيدنا سليمان بـ" الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ" ووصف تعامله معها يقول الحق تبارك وتعالى: " فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ" كان إلهاماً من الله تعالى لنبيه سليمان ـ على نبينا وعليه من الله السلام ـ وسبقاً علمياً وتاريخياً، لأن ذلك لم يكن معروفاً لأحد في زمن الوحي بالقرآن الكريم، ثم أن الإشارة في الآيات القرآنية الكريمة التي تصف هذه الواقعة (سورة ص ، آية 31 ـ 33) جاءت بالتأنيث " الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ" مما يؤكد دور أنثى الخيل في تدبير أمر جماعتها وهو من حقائق علم سلوك الحيوان التي لم تعرف إلا في أواخر القرن العشرين.
و ـ أفضل طرق فحص واختبار الخيل:
للحيوانات الأهلية أمزجة متباينة، وطباع تتقلب بين الدعة والشراسة لذلك يتطلب الاقتراب منها حرصاً وانتباهاً عظيمين خصوصاً للغريب الذي لم يسبق له معاملتها أو خدمتها، نجد أنه في الخيل يجب أن يظهر فاحص الحصان نحوه كثيراً من العطف وهو داخل عليه، فيربت على رأسه ورقبته وظهره فيطمئن إليه ويعلم أن القادم صديق فلا يتهيج أو يرفس.
وقياس نبض الخيل من أهم الأمور التي يجب على الفاحص أن يبدأ بها فحصه للحصان، فعن طريق النبض يمكن معرفة حالة الحصان المرضية، ويقرر العلم أن قياس النبض في الخيل يكون من الشريان تحت الفكي، والشريان الصدغي، والشريان الكعبري.. وإذا كان قياس النبض والحصان في حالة هدوئه إنما يكشف لإنسان عن حالة الحصان المرضية وعما إذا كان مصاباً بمرض أو سليماً، فإن قياس نبضه لمعرفة درجة احتمال قلبه وطاقته لا بدَّ أن تكون بعد أن يقوم الحصان بشوط من الجري، كما أنه توجد في بعض الخيول عيوب تقلل من قيمة الحصان، ولذلك فإن الطريقة التي أصبحت دستوراً يعمل به عند فحص واختبار الخيل هي أنه بعد الفحص الظاهري الأول للحصان والتأكد من صلاحياته شكلاً ومنظراً يقوم بالعدو لشوط كبير على قدر الاستطاعة ومراقبته أثناء العدو، ثم قياس نبضه بعد أن فحص الخيل فحصاً ظاهرياً إذ عرضت عليه، لذلك أمر النبي سليمان عليه السلام بأن تعدو الخيل إلى أقصى وأبعد ما يستطاع حتى توارت بالحجاب فلم تعد رؤيتها مستاطعة، ثم طلب أن تعود بعد هذا الشوط الطويل من العدو وعندها قام بالفحص العملي لقياس النبض من الشريان تحت الفكي والصدغي والعكبري، كما قام بفحص ساق الحصان بعد هذا المجهود ليعرف أثر العدو عليه وطاقة الساق عليه.
المصادر والمراجع:
* القرآن الكريم
* علي محمد محمد الصلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، صفحة (247:240).
* زغلول النجار، مدخل إلى دراسة الإعجاز العلمي، صفحة 321.
* أحمد النظاري، الجمال الحسي في القرآن الكريم، صفحة 191، 194، 195.
* سيد دسوقي، تأملات في التفسير الحضاري، صفحة 35، 36.