الإمام الكبير، صاحب رسول الله ﷺ، الصوام القوام، الزاهد، المفتي القاضي، ممن جمع العلم والعمل، وسلامة الصدر، صاحب الهجرات الثلاث، الحكيم العظيم، المبشر بالخير من النبي ﷺ، أبو موسى الأشعري التميمي الفقيه المُقري، والوالي، رضي الله عنه وأرضاه.
اسمه ونسبه:
هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب ابن عامر، يمتد نسبه إلى الأشعر بن أدد، وقد ثبت في الحديث الشريف أن النبي ﷺ ناداه باسمه، عبد الله بن قيس، وكنيته أبو موسى، هو اسم أحد أولاده، وأمه ظبية بنت وهب، امرأة من عك.
إسلامه:
لقد أسلم أبو موسى( رضي الله عنه) بمكة قديماً؛ قال ابن سعد: قدم مكة فحالف سعيد بن العاص، وأسلم قديماً وهاجر إلى أرض الحبشة، وتذكر بعض الروايات بأنه رجع إلى قومه للدعوة إلى الله، وقد جمع ابن حجر بين الروايات في إسلامه فقال: وقد استشكل ذكر أبي موسى فيهم، لأن المذكور في الصحيح أن أبا موسى خرج من بلاده هو وجماعة قاصداً النبي ﷺ بالمدينة، فألقتهم السفينة في أرض الحبشة، فحضروا مع جعفر إلى النبي ﷺ بخيبر، ويمكن الجمع بأن يكون أبو موسى هاجر أولاً إلى مكة فأسلم، فبعثه النبي ﷺ مع من بعث إلى الحبشة، فتوجه إلى بلاد قومه، وهم مقابل الحبشة من الجانب الشرقي، فلما تحقق استقرار النبي ﷺ وأصحابه بالمدينة هاجر هو ومن أسلم من قومه إلى المدينة، فألقتهم السفينة لأجل هيجان الريح من الحبشة، فهذا محتمل وفيه جمع بين الأخبار فليعتمد.
هجرته:
نجح أبو موسى (رضي الله عنه) في نشر الإسلام، بين قومه الأشعريين، فأسلم عدد كبير منهم، ولما سمع بهجرة النبي ﷺ إلى المدينة واستقراره فيها، خرج أبو موسى مهاجراً مع من أسلم من قومه، إلى رسول الله ﷺ في المدينة المنورة، لكي يساهم في بناء المجتمع الإسلامي الجديد، والدولة الإسلامية الفتية، مع قومه الأشعريين، وبعد وصولهم المدينة فوجئوا بخروج رسول الله ﷺ منها إلى خيبر، فلم يصبروا في المدينة حتى يرجع إليها، بل حملهم شوقهم وحبهم للنبي ﷺ، على أن يخرجوا إلى خيبر، رغم عناء الرحلة الطويلة، التي ركبوا فيها، البحر والبر، من الحبشة إلى المدينة، وقدموا على النبي ﷺ في خيبر بعد فتحها، والشوق يملأ جوانبهم، والبشر يطفو على وجوههم، وهم يرتجزون: غداً نلقى الأحبة محمدا وحزبه، وقبل وصولهم بشّر النبي ﷺ أصحابه بقدومهم، فقال: (يقدم عليكم أقوام هم أرق منكم قلوبا)، وفرح بهم رسول الله، وقسم لهم من غنائم خيبر، لما عانوه في طريق هجرتهم، رضي الله عنهم.
عبادته وورعه:
قال عنه الإمام الذهبي: كان أبو موسى (رضي الله عنه) صواماً قواماً، ربانياً، زاهداً عابداً، ممن جمع العلم والعمل، والجهاد، وسلامة الصدر، لم تغيره الإمارة، ولا اغتر بالدنيا، هذه الكلمات، تشير إلى معالم شخصية هذا الصحابي، وتتحدث عن جوانب هذه الشخصية، أصدق حديث، كان (رضي الله عنه) من أولئك العلماء الربانيين الذين اصطفاهم الله، فجعلهم صفوة أصحاب رسول الله، يتهجد في الحضر والسفر، في الحرب والسلم، وكان كثير الصيام، يصوم التطوع، ويتحرى الأيام الشديدة الحر فيصومها، وكان على جانب كبير من خشية الله والتوكل عليه، والحياء منه، وكان مضرب للمثل في الحياء، فمن شدة حيائه، يغتسل في البيت المظلم، فيحني ظهره ولا ينتصب قائماً، حتى يأخذ ثوبه، حياءً من الله، لم يعبأ بعرض الحياة الدنيا، ولم يتهالك على شهواتها.
مناقبه وفضائله:
من أبرز فضائله ومناقبه وأعلاها، الدعوات الكريمات التي نالها من النبي ﷺ التي تدل على رضاه عن أبي موسى (رضي الله عنه)، ونوجز في صدر مناقبه كما يأتي: قال النبي ﷺ (اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً.
كما نال أبو موسى البشرى من النبي وشهد بأنه منيب، وتشرف بالتبرك بماء مجّ فيه، وغسل به يديه ووجهه، كما دعى له لولده، فعن أبي موسى قال: ولد لي غلام، فأتيت به رسول الله ﷺ فسماه إبراهيم، وحنكه بتمرة، ودعا له البركة ودفعه إليّ).
أما فضائله الشخصية فكثيرة: أبرزها العلم، والعبادة، والورع، والحياء، وعزة النفس وعفتها، والزهد في الدنيا، والثبات على المبدأ، ويعد أبو موسى (رضي الله عنه) من كبار علماء الصحابة، وفقهائهم، ومفتيهم، فقد ذكره الذهبي في تذكرة الحفاظ في الطبقة الأولى من الصحابة (رضي الله عنهم)، قال عنه: كان عالماً عاملاً صالحاً، تالياً لكتاب الله إليه المنتهى في حسن الصوت بالقرآن، روى علماً طيباً مباركاً، أقرأ أهل البصرة وأفقههم).
علمه وفضله:
كان رضي الله عنه كثير الملازمة للنبي ﷺ كما أنه تلقى من كبار الصحابة، كعمر، وعلي، وأبي بن كعب، وعبدالله بن مسعود، (رضي الله عنهم)، وقد استفاد على وجه الخصوص من عمر بن الخطاب كثيراً، إذ كان يتعهده بالوصايا والكتب، في أثناء ولايته الطويلة على البصرة، وكان يرجع إليه في القضايا، حتى عده الشعبي، واحداً من أشهر أربعة قضاة الأمة، وكان أبو موسى عندما يأتي إلى المدينة المنورة، يحرص على مجالس عمر (رضي الله عنهما)، كما وقد نهل من علم عبد الله بن مسعود، نتيجة لمخالطته إياه، حيث كان يجالسه كثيراً ويتذاكر معه حديث النبي ﷺ.
الحض على العلم والتعلم:
كان أبو موسى (رضي الله عنه) حريصاً على طلب العلم والتعلم، وعلى نشره بين الناس وتفقيههم، فعن أبي المهلب قال: سمعت أبا موسى على منبره وهو يقول: من علمه الله علماً فليعلمه، ولا يقولن ما ليس له به علم، فيكون من المتكلفين، ويمرق من الدين، وقد جعل أبو موسى (رضي الله عنه) مسجد البصرة مركز نشاطه العلمي، وخصص جزءاً كبيراً من وقته، لمجالسه العلمية وحلقات العلم، ولم يكتف بذلك، بل كان لا يدع فرصة تمر، دون أن يستفيد منها، في تعليم الناس وتفقيههم، فإذا ما سلم من الصلاة، استقبل (رضي الله عنه) الناس وأخذ يعلمهم، ويضبط لهم قراءتهم، للقرآن الكريم، قال ابن شؤذب: كان أبو موسى إذا صلى الصبح، استقبل الصفوف رجلاً رجلاً يقرئهم.
قارئ القرآن:
اهتم أبو موسى (رضي الله عنه) بالقرآن الكريم، اهتماماً كبيراً، فهو أحد كبار الحفاظ، من الصحابة، تلقاه من رسول الله ﷺ مباشرة، وسمع منه النبي الكثير الطيب، وأقره على قراءته، وأثنى عليه، بسبب جمال صوته، وحسن أدائه، لقد آتاه الله تعالى، صوتاً ندياً، جميلاً شجياً، قرأ به القرآن وتغنى به، وسمعه النبي فقال له: يا أبا موسى لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داوود، واشتهر أبو موسى (رضي الله عنه) بين الصحابة بجمال صوته وحسن قراءته، فكان الناس يجتمعون عليه، حين يسمعونه يقرأ، وحتى أمهات المؤمنين، كنّ يستمعن لقراءته، وفي كل مكان نزل فيه أبو موسى كان الناس يجتمعون عليه ليتذوقوا حلاوة القرآن الكريم من صوته الشجي الندي.
تعليمه للقرآن:
أبو موسى (رضي الله عنه) من الصحابة الذين تعلموا القرآن، من رسول الله ﷺ وعلموه للناس، وبذل (رضي الله عنه) كل ما يستطيع من جهد، في تعليم القرآن ونشره بين الناس، في كل البلاد التي نزل فيها، واستعان بصوته الجميل وقراءته الندية، فاجتمع الناس عليه، وازدحم حوله طلاب العلم، في مسجد البصرة، فقسمهم إلى حلق، ومجموعات، وكان يطوف عليهم، يسمعهم ويستمع منهم، ويضبط لهم قراءتهم، لقد جعل (رضي الله عنه) القرآن الكريم شغله الشاغل، وصرف له معظم أوقاته، في حله وفي سفره، حتى عندما كان يخرج إلى الجهاد، كان يعلم ويفقه، وأثمرت جهوده العلمية، وقرت عينه برؤية عدد كبير حوله من حفاظ القرآن الكريم وعلمائه.
معلم السنة:
اهتم أبو موسى (رضي الله عنه) بتعليم السنة ورواياتها، فروى عن رسول الله ﷺ الكثير الطيب، وعن كبار الصحابة (رضي الله عنهم) وعلماء التابعين، وكان شديد التمسك بها، ويرغب أولاده بحفظها، وروايتها مشافهة، ومع حرصه الشديد عليها، إلا أنه لم يكثر من رواية الأحاديث النبوية، وقد بلغ مسند أبي موسى ثلاثمائة وستين حديثاً.
القاضي الفقيه:
ومن فضائله (رضي الله عنه) أنه كان من كبار قضاة الصحابة وفقهائهم، حتى عدّه العلماء، رابع قضاة الأمة، فلم يتقدم عليه سوى عمر وعلي، وزيد بن ثابت (رضي الله عنهم)، فهو التلميذ النجيب، في القضاء والفقه، لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، إذ تأثر به كثيراً، وكان (رضي الله عنه) يتأنى في أحكامه، ولا يتسرع في إصدارها، حتى يظهر له الحق، ومع مكانته الكبيرة بين الصحابة، ما كان يتردد في السؤال، عن أي حكم فقهي يجهله، مهما كان هذا الحكم، ولو كان من أخص خصوصيات المسؤول، وإذا ما أفتى في مسألة، ثم تبين له أنه أخطأ في الحكم أعلن تراجعه على الناس، ولهذا وثق الناس بعلمه وفقهه (رضي الله عنه).
ومن أقواله رضي الله عنه:
ـ إنما أهلك من كان قبلكم هذا الدينار والدرهم، وهما مهلكاكم.
ـ إنما سمي القلب لتقلبه، وإنما مثل القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض.
وفاته:
مات أبو موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بالكوفة، وقيل: مات بمكة سنة اثنتين وأربعين، وقيل: سنة أربع وأربعين وهو ابن ثلاث وستين سنة.
هذا هو أبو موسى الأشعري الصحابي، المهاجر، المجاهد، العابد، الخاشع، الحيي، السّتير، القارئ، المقرئ المعلم، الذي لم تغيره المناصب والرتب، والذي تولى أعلى المناصب وأرفعها، وقاد الكتائب والجيوش، وحضر الحتوف والزحوف، ثم خرج بعد ذلك منها، كما دخل نقياً تقياً، براً كريماً (رضي الله عنه وأرضاه).
المراجع:
علي الصلابي، سيرة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، مقال منشور، مجلة المجتمع الكويتية، 23يوليو 2023م، https://mugtama.com/23/302488/
أبو موسى الصحابي العالم المجاهد، عبد الحميد طهماز، دار القلم، دمشق، 1991م، صـ21ـ 24.
الإصابة في معرفة الصحابة، ابن حجر العسقلاني، م2/ ص352.
أبو موسي الأشعري، سيد الفوارس، مجلة الجمهورية، مصر، الاثنين 18 أبريل 2022
https://m.gomhuriaonline.com/Gomhuria/1025661.html.
صحيح البخاري كتاب المغازي، 4333.
مسند الإمام أحمد بن حنبل، م4/ ص402.
سير أعلام النبلاء، م2/ ص389.
أبو موسى الصحابي العالم المجاهد، طهماز، ص131ـ 145.
أبو موسى الاشعري، الرباني العابد والفاتح المجاهد، محمد دولة، دار القلم، دمشق، ط2، 1980م، صـ 195.
أسد الغابة لابن الأثير، جـ3، صـ246