موت سليمان عليه السلام عبرةٌ للإنس والجن ..
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك ...
بقلم د. علي محمد الصلابي ...
الحلقة (79)
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾.
جعل الله موت سليمان (عليه السلام) عِبرة للإنس والجن؛ فقد كان سليمان حازماً شديداً مع كل من يخالفه، فيقيّده بالأصفاد، سواء كان من الإنس أم من الجن، قال تعالى: ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)﴾ [ص: 37 - 38]
وكان صالحو الجن والإنس الذين معه مؤمنين مسلمين، لكن كان شياطين الجن والإنس كفاراً، يثيرون الشبهات حول سليمان (عليه السلام)، ويطلقون الإشاعات حول الجن والإنس. ومن الإشاعات التي كان يطلقها هؤلاء الشياطين والمتأثرون بهم أن الجن يعلمون الغيب؛ لأن الله وهبهم طاقات وقدرات خارقة، يتحركون أينما شاءوا، ويذهبون إلى أي مكان أرادوا، فلا يقف أمامهم شيء، ولا يعجزون عن أي شيء، ولهذا كانوا يعلمون الغيب.
وبما أن الجن يعلمون الغيب، فإن سليمان (عليه السلام) قد استفاد منهم ومن علمهم بالغيب في حكمه وسلطانه؛ حيث يقدمون له أخبار الغيب التي يعلمونها، فيستفيد منها في إخضاع الآخرين والتحكم فيهم. وكانت هذه الإشاعات الشيطانية تصدر عن شياطين سليمان (عليه السلام)، وكان سليمان (عليه السلام) يفندها ويبطلها، لكنها كانت موجودة، وكان ضعاف الإيمان من الجن والإنس يصدقونها ويرددونها. وأراد الله الحكيم أن يجعل موت سليمان (عليه السلام) إبطالاً عملياً لهذه الإشاعات، وتقريرًا لحقيقة إيمانية جازمة وهي أن الجن لا يعلمون الغيب، وأن الله وحده هو الذي اختص بعلمه.
هذا ما تُخبرنا به هذه الآية الكريمة التي تحدثت عن موت سليمان (عليه السلام)، ولا ننسى أن هذه الآية خاتمة آيات تتحدث عنه، حيث كان الكلام قبلها عن الجن الذين يعملون بين يدي سليمان بإذن ربه وعن حزمه في حكمهم، وعن بعض الصناعات الحديدية والنحاسية التي يصنعونها، كالمحاريب والتماثيل والجفان والقدور الراسيات.
وبما أن الله تعالى يُخبر الأنبياء عن موتهم تكريماً لهم، فيختارون لقاءه فيقبض أرواحهم ويتوفاهم، كما مرَّ معنا من قبل، فقد خيّر الله سليمان (عليه السلام) لما جاءه الأجل، فاختار لقاء الله، ولا توجد أحاديث صحيحة تبين كيفية تخيير الله له، كما حصل مع موسى وداوود (عليهما السلام)، وبعدما اختار سليمان لقاء الله أخذه الموت.
وتشير الآية إلى أن الجن كانوا يقومون بأعمالهم التي كلفهم سليمان بها، وهي أعمال شاقة متعبة، ويبدو أن سليمان (عليه السلام) كان واقفاً أمامهم، مراقباً لهم، متكئاً على عصاه، وكانوا يهابونه ويخافون منه، وفي هذا الجو الحازم شاء الله الحكيم أن يقبض روح سليمان (عليه السلام)، ليبين للجن الخاطئين المنهكين في العمل، ولمن بعدهم، أنهم لا يعلمون الغيب.
أ- ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ﴾:
أي: أوقعنا على سليمان الموت حاكمين به عليه، وقيل أنفذنا عليه ما قضينا عليه في الأزل من الموت، وأخرجناه إلى حيز الوجود. أرسل الله له ملك الموت لقبض روح سليمان (عليه السلام)، ففاضت روحه وهو متكئ على عصاه وبقي الجن مقبلين على العمل، على اعتبار أن سليمان متكئ على عصاه مراقب لهم، وهم لا يرفعون رؤوسهم خوفاً منه، ولا ينظرون إليه هيبة له.
ب- ﴿مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ﴾:
والضمير في دل: إما يعود إلى الجن أو آل سليمان.
أرسل الله إلى عصا سليمان دابة الأرض وهي (الأرضة) المعروفة بأكل الأخشاب، وصارت هذه الدابة تأكل العصا من الداخل وتنخرها، فلما نخرت العصا لم تحمل جسم سليمان الميت (عليه السلام)، فانكسرت وخر جسد سليمان (عليه السلام) على الأرض.
جـ- ﴿تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ﴾:
أي: عصاه التي كان يتوكأ عليها، وهي لم ترد في غير هذا الموضع من القرآن، وهي اسم آلة على وزن مفعلة: العصا العظيمة تكون مع الراعي، سميت بذلك لأنه ينسأ بها الغنم أي: يزجرها ليزداد سيرها.
وإضافة المنسأة إلى سليمان (عليه السلام) (منسأته) تدل على أن سليمان (عليه السلام) كان يستخدم العصا، ويستعملها في أعماله وحركاته ونشاطاته، ويحملها أثناء سيره ويتوكأ عليها أحياناً، ويزجر بها جنوده وموظفيه أحياناً.
د- ﴿فَلَمَّا خَرَّ﴾:
الضمير يعود على سليمان (عليه السلام).
والخُرُور: السقوط؛ حيث يُسمع له خرير.
والخُرُور: انهيار بلا نظام وبلا ترتيب وكلمة (خرَّ) بمعنى سقط توحي بأن كرامة الإنسان في روحه وفي السر الذي وضعه الله فيه.
ه- ﴿تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾:
تعجب الجن لما سمعوا صوت خروره وسقوطه على الأرض، وعرفوا أنه قد مضى على وفاته ساعات أو أيام، في حين لم يعلموا هم بذلك، ولو عرفوا بموته ساعة موته ما لبثوا هذه الساعات والأيام في العذاب المهين الشاق المتعب، ولتركوا ذلك العمل، وذهبوا إلى الراحة.
إذن: هؤلاء الجن لا يعلمون الغيب، ولا يعلمون بعض الحاضر المشاهد.
هذا ما أراد الله الحكيم إقراره وتوضيحه وترسيخه من اختياره موت سليمان (عليه السلام) على هذه الطريقة، والجن والشياطين كاذبون عندما يشيعون أنهم يعلمون الغيب وهذا هو الدليل على كذبهم. لقد أدرك الناس يومئذ أن الجن لا يعلمون الغيب، ولو كانوا يعلمونه ما لبثوا في أعمال السخرة الشاقة المذلة مدة من الزمن.
إن علم الغيب لا يعلمه إلا الله، وأن الله تعالى هو عالم السر وأخفى، وأنه جل وعلا استأثر لنفسه بعلم الغيب، ولم يُطلع عليه أحداً من خلقه إلا لمن أراد، وبقدر ما أراد.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 372-377.
- القصص القرآني (3/569-575).
- سليمان (عليه السلام) في القرآن، همام حسن سلوم، ص237، وروح المعاني (22/122).
- تفسير البيضاوي (4/395).
- المعجم المفصل في تفسير غريب القرآن، التونجي، ص472.
- معجم مفردات القرآن، ص162، ومختار الصحاح، ص104.
- تفسير الشعراوي (20/12287).
- سليمان (عليه السلام) في القرآن، ص226، وانظر: في صحبة الرسل الكرام، السيد عسكر، ص226. وفي: قصص القرآن، سميح عاطف الزين، ص556، وفي: معجزات الأنبياء، عبد المنعم الهاشمي، ص243، وانظر: أنباء الأنبياء، أحمد محمد أبو شنار، ص595، وفي: الثمين في قصص الأنبياء، زهير علي كاخي، ص140.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:
https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/689