اِتهام اليهود لسليمان (عليه السلام) بالسحر
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (81)
قال تعالى:﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ )101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)﴾ [البقرة: 101 - 103]
هذه الآيات الكريمة تتحدث عن تعلق بعض اليهود بالسحر، حتى بلغ الأمر بهم إلى ترك الشريعة المنزلة والتعلق بالسحر في كل شأن من شؤون حياتهم.
إن الآيات الكريمة توضح حجم تعامل اليهود مع السحر، فقد نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وهذا الذي اتبعوه هو السحر الذي علمته الشياطين. وقد زعم اليهود أن نبي الله سليمان كان ساحراً، وبالسحر دانت الجن الإنس والطير وسخرت له الريح؛ فبرأ الله نبيه سليمان (عليه السلام) مما افترته عليه اليهود ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾.
لقد كان سليمان ملكاً نبياً ولم يكن ساحراً، ولكنه الافتراء الذي لم ينج منه حتى الأنبياء، وليس اتهام سليمان بالسحر أقل من اتهامه بعبادة الأصنام، وقد جاء ذلك في كتبهم المزورة المحرفة المكذوبة على سليمان (عليه السلام).
والمتتبع لهذه الأكاذيب الظالمة يجد أن الكذب والافتراء على سليمان لم يتوقف بعد مجيء الإسلام، بل أدخلت على سيرته كثير من القصص والأساطير مما نراه في قصص ألف ليلة وليلة وغيرها من الكتب.
تعرضت سيرة سليمان (عليه السلام) للأكاذيب والأباطيل، وقد تداول الناس عبر التاريخ كتب السحر التي تعبِّد الناس للشياطين، وتقيم بينهم وبين ربهم حجاباً وحاجزاً، ونسبوا هذه الكتب إلي نبي الله سليمان، وسليمان (عليه السلام) منها براء. وجاء القرآن ودافع عن سليمان (عليه السلام)، وبيَّن حقيقته ونبوته ورسالته وبراءته من السحر والكذب.
تفسير الآيات الكريمة:
1- ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾:
- ﴿وَلَمَّا﴾: ظرفية زمانية بمعنى حين.
- ﴿جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾: هو محمد ﷺ.
- ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾: موافق ومؤيد لما معهم؛ أي التوراة، ومصدق لما في التوراة من أوصاف النبي ﷺ.
- ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾.
- ﴿نَبَذَ﴾ النبذ: هو طرح الشيء والاستهانة به، أو الاستغناء عنه. واستعمل كلمة النبذ أو الطرح، لأن العهود كانت تكتب في صفائح، وعندما كانوا يريدون أن ينقصوها، يطرحون أو يلقون تلك الصفائح أرضاً إشارة إلى تخليهم عنها.
- ﴿فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾.
- ﴿فَرِيقٌ﴾ جماعة من الذين أوتوا الكتاب. فهنالك جماعات أخرى وفِرَق أخرى لم تنبذه وقبلت به، مثل عبد الله بن سلام وهو أحد أحبار اليهود صدّق رسولَ الله ﷺ وآمن به وغيرهم.
- ﴿كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ أي: طرحوه وراء ظهورهم. وهذا تمثيل لشدة إعراضهم عن القرآن.
وعادة النبذ يكون أمام الشخص، أو عن يمينه أو عن يساره أما كونهم نبذوه وراء ظهورهم، فكأنهم لا يريدون الالتفات، أو الاستماع إليه، وتذكره أو كأنهم أعرضوا عنه كاملاً، وكأنهم يريدون نسيانه.
- ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾: الكاف: للتشبيه، أنهم: للتوكيد لا: يعلمون.
- ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾: بشارة محمد ﷺ وصفاته وزمن قدومه، أو كأنهم لا يعلمون ما جاء في التوراة أنه مطلوب منهم الإيمان بمحمد ﷺ، وتصديقه.
ولقد نبذ القوم التوراة، كما نبذوا القرآن الكريم، وأعرضوا عن جميع الشرائع التي أنزلها الله تعالى، واتبعوا ما تشرعه لهم شياطين الإنس والجن، مما يوافق أهواءهم، ويمكنهم من نشر الفساد بين العباد.
قال الأستاذ الإمام (محمد عبده): ليس المراد بنبذ الكتاب وراء ظهورهم أنهم طرحوه برمته وتركوا التصديق به في جملته وتفصيله، وإنما المراد أنهم طرحوا جزءا منه وهو ما يبشر بالنبي ﷺ ويبين صفاته ويأمرهم بالإيمان به واتباعه، أي فهو تشبيه لتركهم إياه وإنكاره بمن يلقي الشيء وراء ظهره حتى لا يراه فيتذكره. وترك الجزء منه كتركه كله؛ لأن ترك البعض يذهب بحرمة الوحي من النفس ويجرئ على ترك الباقي.
2- قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾:
أ- ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾:
- ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ أي: اليهود.
- ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾: ما تأخذ به وتتبعه وتقدمه، وما ترويه وتخبر به كاذبة.
- ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أي: في زمنه وعهد ملكه، وما أقحموه وزادوه من السحر والكفر في الكتب ونشروها بعد موته بين الناس واتهموا سليمان (عليه السلام) أنه كان ساحراً، وأنه ما أخضعهم إلا بقوة سحره. وانتشرت هذه الشائعات بين اليهود على وجه الخصوص، بسبب عداوتهم للأنبياء، وتناقلها الخلف منهم عن السلف، ولهذا أنزل الله تعالى هذه الآيات تبرّئُ سليمان من تهمة السحر، وترد ما أذاعته الشياطين عنه، وتبين في الوقت نفسه حقيقة السحر ومصدره.
ب- ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾: كما زعمت الشياطين، وما عمل بالسحر ولا علمه أحد، بل كان محارباً للسحر والسحرة والمشعوذين.
جـ- ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ بتعليم السحر والإعانة عليه واستعماله ونشره بين الناس.
د- ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾: فالشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر، فهم مصادره الأساسية، ومصادر كل شر، والسحر موجود قبل عهد سليمان، سحرة فرعون، وقصتهم مع نبي الله موسى (عليه السلام) مشهورة ومذكورة في آيات قرآنية كثير، واستدل بهذه الآية من يرى أن تعلم السحر كفر.
والسحر في اللغة: كل شيء خفي سببه. والسحر المذموم شرعاً هو العُقَد والرُقَى التي ينفث فيها الساحر، فينتج عن ذلك تأثير في بدن المسحور، أو عقله، ومنه ما يقتل، ومنه ما يُمرض، ومنه ما يُزيل العقل، ومنه ما يغيّر الحواس، فيرى الشيء المتحرك ساكناً والساكن متحركاً -وهو سحر التمثيل والتخييل- ومنه ما يغير مشاعر الإنسان، فيقلب الحب بغضاً والبغض حباً -وهو الصرف والعطف- فيصرف الرجل عن أحب الناس إليه كزوجته وأولاده وأبويه ويُكرّهه فيهم، وربما كرهه نفسه. أو يحب -نتيجة السحر- شخصاً ويميل إليه ميلاً قوياً، وينقاد له، حتى لا يستطيع الخروج عن أمره.
والسحر قديم في البشر؛ فقد كان معروفاً في قوم صالح، وقوم فرعون، كما مر معنا.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 380-386.
- عالم السحر والشعوذة، عمر سليمان الأشقر، الأردن، دار النفائس، ط4، 1422ه - 2002، ص38.
- تفسير القرآن الثري الجامع، د. محمد هلال، دار ابن كثير وابن حزم، ط1، 1998م، (1/192 - 193).
- تفسير الشعراوي (1/486).
- التفسير الموضوعي (1/157-159).
- تفسير القرآن الثري الجامع (1/193).
- تفسير المنار (1/328).
- تفسير الزهراوين، محمد المنجد، ص 176-178.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: