الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

اتهام اليهود لسليمان (عليه السلام) بالسحر (2)....

مختارات من كتاب الأنبياء الملوك ...

بقلم د. علي محمد الصلابي ...

الحلقة (82)

 

قال تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾:

قال كثير من المفسرين (هاروت) و(ماروت) أسماء لملكين أنزلهما الله في أرض بابل العراق بالعراق لما خلطت الشياطين الأمور على الناس، ونشروا السحر والكفر فيهم، فميّز الملكان للناس بين السحر والنبوة لتوضيح ماهية السحر، وصار يعلمان الناس ذلك ويحذرانهم من العمل به، وفي هذا ابتلاء وامتحان من الله، وكان تبيينُ الشر لتوقّيه لا العمل به.

ومدينة (بابل) لها شهرة كبيرة في الحضارة القديمة التي عرفت بحضارة ما بين النهرين، وكانت حينئذ من أكبر المدن وأشهرها.

ويبدو أن السحر والعمل به انتشر فيها، وخصوصاً عندما سلط الله تعالى على اليهود البابليين في عهد ملكهم "بختنصر" في القرن السادس قبل الميلاد، فقد قتل منهم مقتلة عظيمة، وأخذ عدداً كبيراً منهم أسرى إلى بابل، وفي أثناء أسرهم انتشر السحر في بابل، وراح اليهود ينشرون الفساد في المجتمع البابلي علهم يتمكنون من إضعاف أهل بابل وإفسادهم.

وعلى المستوى الحضاري والتاريخي من خلال الدراسات التاريخيةن، نرى أنه في الوقت نفسه أخذت الدولة الفارسية بالنمو كقوة فتية؛ فوجد هؤلاء اليهود ضالتهم فراحوا يراسلون الفرس، ويحرضونهم على غزو بابل، على أن يقوموا هم بدور الإفساد في المجتمع البابلي. وأخذوا يستخدمون السحر في التفريق بين الأزواج والأسر، وتم لهم تفكيك المجتمع ووقعوه في حبائل الشياطين، فصار الزوج يشك بزوجته والزوجة تشك بزوجها حتى صار كل واحد يتهم الآخر بالخيانة، وحدثت مشكلة اجتماعية عظيمة في بابل أدت إلى دمار النفسية البابلية، وأصبحت مهيأة للسقوط، فجاء الفرس وقضوا على الحضارة البابلية بسهولة؛ لأنهم وجدوا مجتمعاً مدمراً من حيث الأخلاق والسلوك الإنساني. وكمكافأة من قبل اليهود للفرس أهدوا الملك الفارسي فتاة من أجمل فتيات بني إسرائيل اسمها "إستير" فتزوجها، ومن خلال ذلك راحت هي وقومها تنتقم من كل أعداء اليهود المفترضين؛ حتى أجروا المذابح في البابليين وغيرهم، هكذا تقول كتب التاريخ.

لقد تابع اليهود الشياطين في تعلم السحر ونشره والإفساد في الأرض، وهناك ارتباط وثيق بين السحر والشياطين، لأن السحر وسيلة من وسائل الشياطين في استهواء الناس وإغوائهم وقيادتهم والتأثير فيهم.

أ- ﴿وَمَا أُنْزِلَ﴾: (ما) نافية أو موصولة؟

وقف المفسرون طويلاً أمام قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾.

فقد اتفقوا على أن الواو في ﴿وَمَا أُنْزِلَ﴾ عاطفة، وأن الجملة معطوفة على ما سبق؛ لكنهم اختلفوا في الجملة التي عطفت عليها. ومنشأ اختلافهم في المعطوف عليه، هو اختلافهم في ﴿مَا﴾ هل هي حرف نفي، أو اسم موصول بمعنى الذي؟

القول الأول: أن ﴿مَا﴾ معناها الجحد والنفي، فهي حرف نفي، بمعنى (لَمْ) وهذا القول المنسوب إلى الإمام ابن عباس.

وقد وضح الطبري هذا الرأي بقوله (فتأويل الآية -على هذا المعنى- واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين –ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر- ببابل هاروت وماروت، فيكون حينئذ قوله: ﴿بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ من المؤخر الذي معناه التقديم.

وهذا القول يكون المراد بالملكين: جبريل وميكائيل، ويكون (هاروت وماروت) اسمين لرجلين من الشياطين ويعلمان الناس السحر ببابل، وعلى هذا القول تكون معطوفة على قوله: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾؛ أي أن القرآن نفى كفر سليمان، ونفى إنزال السحر على الملكين ببابل، ولكن الشياطين كذبت ونسبت السحر والكفر إلى سليمان (عليه السلام)، وكذبت عندما ادَّعت إنزال السحر على الملكين ببابل.

القول الثاني: أن (ما) اسم موصول بمعنى (الذي): وهذا القول نسبه الطبري إلى عبد الله بن مسعود، وقتادة، والزهري، والسُّدِّي، وغيرهم.

قال الطبري في توضيح هذا القول: واتبعت اليهود (الذي) تلت الشياطين على ملك سليمان، واتبعت الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.

لكن الإمام ابن كثير عقب على شيخه الطبري، وردّ على ترجيحه وعلّق عليه قائلاً: ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول وأن (ما) بمعنى الذي، وأطال القول في ذلك، وادّعى أن هاروت وماروت ملكان، أنزلهما الله في الأرض وأذن لهما في تعليم السحر، اختباراً لعباده وامتحاناً بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في ذلك، لأنهما امتثلا ما أمرا به.

ويبدو -والله أعلم- أن (هاروت وماروت) كانا أشهر سحرة بابل، الذين علموا الناس السحر بها- وأنهما كانا معروفين مشهورين بين اليهود في زمن نزول القرآن الكريم، ولهذا خصهما الله تعالى بالذكر، وما نقل عن أحد من يهود المدينة أنه أنكر ذلك، مع حرصهم الشديد على تكذيب النبي ، والاعتراض على التنزيل الحكيم، وأنهما كانا يتظاهران بالصلاح والتدين، لكي يخدعا السذج والبسطاء من الناس، ولهذا كانا ينصحان كل من يعلمانه السحر أن لا يكفر باستعمال السحر، قال تعالى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ أي: اختبار وابتلاء.

  • وحكى المهدوي ﴿فَلَا تَكْفُرْ﴾ باستعمال السحر: أنه استهزاء؛ لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحقق ضلاله، ونقل ذلك عنه القرطبي في تفسيره مؤيداً له.

ولكن هذا المعنى لا يتفق مع ترتيب كلمات الآية، ولا بد كما قال القرطبي –رحمه الله- من تقديم وتأخير، والتقدير: وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾؛ هذا أولى ما حملت عليه الآية في التأويل، وأصح ما قيل فيها، ولا يلتفت إلى ما سواه.

   وبهذا المعنى تتفق الآية تماماً مع سياقها من الآيات، وللتقديم والتأخير نظائر في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [طه: 129] أي: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان عذابهم لزاماً.

وقد كتب الدكتور عبادة أيوب الكبيسي –رحمه الله- كتاباً فريداً من نوع (قصة هاروت وماروت في ميزان المنقول والمعقول) فمن أراد التوسع فليرجع إليه.

مراجع الحلقة:

  • الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 386-392.
  • تفسير ابن عثيمين (3/345)، تفسير الطبري (2/420).
  • صرخة النبوة في وجه الخرافة التوراتية، حسن الباشا، دار قتيبة، ط1، 2010م، ص66.
  • مع قصص السابقين، صلاح الخالدي، دار القلم، دمشق، ط1، 2007م، ص 95 -91.
  • تفسير الطبري (2/419).
  • تفسير الطبري (2/421).
  • عمدة التفاسير (1/194).
  • التفسير الموضوعي (1/162-161).
  • المحرر الوجيز (1/622).
  • تفسير القرطبي (2/50-54).

 

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:

https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/689

 

 

 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022