الخميس

1446-10-26

|

2025-4-24

حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله ﷺ (رضي الله عنه) 

"من النماذج العُلمائية المُلهمة"

بقلم: د. علي محمَّد الصَّلَّابي

(الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

هو الصحابي حذيفة بن اليمان بن جابر بن الحارث العبسي (رضي الله عنه وأرضاه)، صاحب سرّ رسول الله ﷺ ومن كبار أصحابه، كان فقيهاً من الفقهاء، ومفسراً من المفسرين، ومجاهداً مع المجاهدين، ومعلماً مربياً، وزاهداً ورعاً، والعارف بالمحن وأحوال القلوب والعيوب.

اسمه ونسبه وكنيته:

هو حذيفة بن اليمان بن جابر بن ربيعة بن جروة بن الحارث بن مازن بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن عدنان العبسي، ويكنى بأبي عبد الله. وأما والده فهو حسل والمعروف باليمان حليف بني عبد الأشهل. وأما والدته: اسمها الرباب بنت كعب بن عدي، من الأنصار من الأوس من بني عبد الأشهل (الإصابة في تمييز الصحابة/ 4/ 300) و(تاريخ بغداد، 1/162).

إسلامه وملازمته للرسول ﷺ:

حين ولد حذيفة بن اليمان كانت الدعوة الإسلامية قد ظهرت في مكة على يد سيد البشرية محمد ﷺ، فلما سمع والد حذيفة بذلك، وكان رجلاً معمراً قد أدرك الجاهلية، وعاصر بدء الدعوة الإسلامية، فأسلم من بين عشرة من بني عبس قدموا على رسول الله ﷺ وأعلنوا إسلامهم.

وكانت أمه الرباب من نساء الأنصار السابقات إلى الإسلام، فنشأ حذيفة (رضي الله عنه) في بيت إسلامي، وقد كان إسلام حذيفة مبكراً، فهاجر إلى النبي ﷺ فخير بين الهجرة والنصرة، فاختار النصرة، إذ قال له الرسول ﷺ: إن شئت كنت من المهاجرين، وإن شئت كنت من الأنصار؟.

فقال حذيفة: من الأنصار. فقال: فأنت منهم (المعارف، ابن قتيبة، ص 263).

وضمن المؤاخاة التي أجراها الرسول ﷺ بين المهاجرين والأنصار، فقد آخى الرسول ﷺ بينه وبين عمار بن ياسر (رضي الله عنهما)، (قال الواقدي: آخى رسول الله ﷺ بين حذيفة وعمار. وكذلك قال ابن إسحاق). (سير أعلام النبلاء، 2/ 362) و(جوامع السير، 96).

ملازمته لرسول الله ﷺ:

كان حذيفة (رضي الله عنه) من الصحابة الكرام الذين لزِموا رسول الله ﷺ، فاستفادوا كثيراً وأفادوا، فقد درس في الجامعة التاريخية الكبيرة التي أنجبت القادة والعلماء والفقهاء، وأهل العدل والورع والتقى ومحبة الخير للإنسانية، بهداية من هدى الله إلى الدين الحنيف، تلك الجامعة التي كان مؤسسها ومديرها وموجهها هو السيد الأكرم، حبيبنا وشفيعنا رسول الله ﷺ.

من خلال ملازمة حذيفة (رضي الله عنه) لرسول الله ﷺ ، فقد كان يبحث عن علاج الأمراض نفسه، فهو يراقب نفسه مراقبة صحيحة. فيرى أن لسانه فيه حدة ويجب أن لا يكون كذلك، فيذهب ليعالج الأمر عند المربي الكبير والمرشد العظيم فيجد عنده العلاج الناجع الشافي فيوجهه إلى الاستغفار ماحياً لذنوبه، ومباركاً في حسناته ومريحاً لقلبه، ومشغلاً للسانه في طاعة الرحمن. (انظر: المسند، الإمام أحمد بن حنبل، 5/ 394).

عِلمه ومَنهجه:

ــ حذيفة بن اليمان محدثاً:

عن أبي الطفيل عن النبي ﷺ قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: (يا أيها الناس ألا تسألوني، فإن الناس كانوا يسألون رسول الله ﷺ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، إن الله بعث نبيه، فدعا الناس من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلالة إلى الهدى، فاستجاب من استجاب فحيي بالحق من كان ميتاً، ومات بالباطل ما كان حياً، ثم ذهبت النبوة، فكانت الخلافة على منهاج النبوة). (المسند، الإمام أحمد، 5/404).

وعن عبد الله بن يزيد الخطمي عن حذيفة (رضي الله عنه) قال: أخبرني رسول الله ﷺ بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فما منه شيء إلا قد سألته، إلا إني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة. (المسند، 5/386).

وعن عبد الله بن الصامت عن حذيفة (رضي الله عنه) قال: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هل بَعْدَ هذا الخَيْرِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنْ شَرِّ نَحْذَرُهُ؟ قال: «يَا حُذَيْفَة، عليكَ بِكِتَابِ اللَّهِ فَتَعَلَّمْهُ، وَاتَّبِعْ ما فيه خيراً لك». (أبو داوود، 4246).

منهجه في الرواية:

وكان حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) من أولئك الذين توجهوا إلى العراق وبلاد فارس، فشارك في فتوحاتها جندياً مجاهداً، وقائداً فاتحاً، ولم ينس طيلة مدة إقامته من بداية الفتوحات أن يقوم بواجبه التعليمي، بنشر العلم وبثه بين أهل البلاد المفتوحة، ففاض منه علم غزير يدل على عميق فهمه وبعد نظره، وكان من بين ذلك العلم الذي بلغه أحاديث المصطفى ﷺ التي حفظها ووعاها، وكان يتحرى الدقة والصدق في كل ما كان ينقله عن النبي ﷺ، ومن مظاهر تحريه ودقته وتمسكه بالسنة وعدم تجاوزها، وتحرجه من الإكثار من الحديث عن النبي ﷺ. (الطبراني في الكبير، 3018).

وعن حذيفة (رضي الله عنه) قال: (أتى الله تعالى بعبد من عباده آتاه الله مالاً، فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟. قال: -ولا يكتمون الله حديثاً - قال: یارب آتيتني مَالَكَ، فكُنتُ أبايع الناس، وكان من خُلُقب الجَوَازَ، فكُنتُ أَيسر على الموسر، وأنظرُ المُعْسِرَ، فقال الله تعالى: أنا أحق بذا منك تجاوزوا عن عبدي) فقال عقبة بن عامر، وأبو مسعود الأنصاري (رضي الله عنه) هكذا سمعناه من رسول الله ﷺ. (صحيح مسلم، رقم 1560).

وشملت مرويات حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) جوانب الإسلام وتشريعاته، فقد تحدثت عن شتى جوانبه، وأحاطت بأصوله وكلياته، من صلاة وصيام وزكاة، وفرائض وعلامات للساعة، وآداب اللباس والزينة، وآداب الأطعمة والأشربة، وترقيق للقلوب، وآداب عامة وجهاد، وأحكام الإمارة، وغيرها كثير من جوانب التشريع الإسلامي. (ابن ماجة في المقدمة، رقم 295).

ــ حذيفة بن اليمان فقيهاً:

اجتمع لحذيفة (رضي الله عنه) من الوسائل لتحصيل هذا العلم، والبروز فيه ما لم يجتمع لغيره من أصحاب رسول الله ﷺ، ومن ذلك: صحبته الطويلة وملازمته اللصيقة لرسول الله ﷺ مما أكسبه معرفة واسعة وثروة وافرة تمس حياة الأمة، فسأل عنها وأخذ الجواب واضحاً وجلياً من الحبيب، كما أن الاتباع والتأسي بحبيب الله جعله يلتزم سنته في المسائل التي يُسأل عنها، ولا يخرج عن ذلك إلى رأي أحد من الناس، حتى ولو كان رأيه الشخصي، وساعده حفظه لكتاب الله عز وجل حيث كان من كتاب الوحي الذين كان رسول الله ﷺ يعتمد عليهم في كتابة القرآن، ولديه قدرة فذة على الربط بين محفوظه من الكتاب العظيم، ومن أحاديث رسول الله ﷺ وبين واقع الحياة، وما يحتاجه الناس من أمور تمس حياتهم العملية في شتى القضايا والعلوم. (العلي، حذيفة بن اليمان، ص 168).

وقد استمد حذيفة (رضي الله عنه) معالم منهجه في الفتيا من طول ملازمته للرسول الأعظم ﷺ، وكان حذيفة (رضي الله عنه) مؤهلاً للتصدر للفتوى وتفقيه الناس وتحديثهم وتعليمهم، وكان له مكانة رفيعة في قلوب الصحابة لشدته وصلابته في الحق، ولعلمه الوافر الذي اكتسبه من طول ملازمته للنبي ﷺ، ولذلك كان الصحابة يرتضونه ليحكم بينهم إذا اختلفوا. (المناقب، البخاري، رقم 3560).

حذيفة عالم الفتن:

كان حذيفة (رضي الله عنه) شخصية فذة لها طابعها الخاص بين أصحاب رسول الله ﷺ، كما تفرد حذيفة بالرواية لأحاديث كلها تتعلق بشر الأمور ودقائق المسائل، كما بلغت معرفة حذيفة (رضي الله عنه) بأحاديث الفتن حداً لم يدركه فيه أحد من الصحابة الكرام رضوان الله عنهم. (فتح الباري، العسقلاني، 13/37).

فعن حذيفة (رضي الله عنه) قال: "قام فينا رسولُ اللهِ ﷺ، فما ترك شيئاً يكون في مقامه إلى أن تَقُومَ الساعة إلا حدَّثَ به، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظهُ، ونسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، قد عَلِمَهُ أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون الرجل منه الشيء قد نسيته، فأراهُ فأَذكرُهُ كما يَذْكُرُ الرجلُ وَجْهَ الرَّجُل إذا غاب عنه، فإذا رآه عرفه ". (أبو داود، رقم 4240).

كان حذيفة (رضي الله عنه) ملاذاً ومرجعاً للصحابة والتابعين في علم الفتن، والسؤال عن المسائل العويصة حين تنزل الخطوب وتشتد المحن (الترمزي، في الفتن، رقم 2285).

زهـــده وورعه:

لقد عاش حذيفة (رضي الله عنه) مع رسول الله ﷺ المعلم المربي، فرأى من نماذج زهده ما جعل الدنيا كلها لا تعدل في عينيه جناح بعوضة أو أكثر، وعاصر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الذي كان أزهد ما يكون في الدنيا، فكان ولاته على الأمصار لا يقلون زهداً عنه، وكان حذيفة (رضي الله عنه) من أولئك النفر الذين لم تغير الدنيا قلوبهم، ولكنه بقي محافظاً على نظرته لها دون أن يصيبه أي نوع من التغير، وأسوق بعض المشاهد التي توضح زهد حذيفة (رضي الله عنه).

عن ساعدة بن سعد: أَنَّ حذيفة (رضي الله عنه) كان يقول: (ما من يوم أقر لعيني ولا أحب لنفسي من يوم أتي أهلي فلا أجد عندهم طعاماً، ويقولون ما نقدر على قليل ولا كثير، وذلك أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله أشد حمية للمؤمن من الدنيا من المريض أهله الطعام، والله تعالى أشد تعاهداً للمؤمن بالبلاء من الوالد لولده بالخير).  (أبو نعيم، الحلية، 1/277).

والناظر في شخصية حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) سيلحظ أنه كان ورعاً تقياً، بل شديد الورع بالالتزام بالحلال والبعد عن الحرام، واجتناب الشبهات في أعماله وتصرفاته، وفي مناصبه ومواقفه، وفي کسبه ورزقه وإنفاقه، وفي عباداته ومعاملاته، مما يدل على ورعه كثير من التصرفات التي ذكرتها في عباداته وصلاته وزهده، ومنها وقوفه عند أحكام الشرع في نفسه وتمسكه بالسنة. (العلي، حذيفة بن اليمان، ص 122).

ولقد كان حذيفة (رضي الله عنه) حريصاً أشد الحرص على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كيف لا يفعل وهو الذي يروي حديثاً صحيحاً عن النبي ﷺ يحذر من العاقبة السيئة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد جاء: عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: عن النبي ﷺ قال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المنكر أو ليوشكنَّ الله أن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْهُ فَتَدْعُونَهُ فَلا يستجيب لكم». (الترمذي، الفتن، رقم 2176).

وفاة حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه)

قال ابن سعد : (مات حذيفة بالمدائن بعد عثمان، وله عقب). (سير أعلام النبلاء، 2/366)، وقبره اليوم موجود في مسجد سلمان الفارسي بالمدائن.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022