الثلاثاء

1446-05-03

|

2024-11-5

التمكين والشهود الحضاري الإسلامي

"الثبات النبوي أمام مفاوضات ومساومات المشركين"

بقلم: د. علي محمد الصَّلابي

 

اجتمع المشركون يوماً، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسِّحر والكهانـة والشِّعر، فليأت هذا الرَّجل الَّذي فرَّق جماعتنا وشتَّت أمرنا وعاب ديننا؛ فليكلِّمه، ولينظر ماذا يـردُّ عليه ؟ فقالوا: ما نعلـم أحداً غير عتبـةَ بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد! فأتاه عتبة، فقال: يا محمد! أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن كنت تزعم: أنَّ هؤلاء خيرٌ منك؛ فقد عبدوا الآلهة الَّتي عبت، وإن كنت تزعم: أنَّك خيرٌ منهم، فتكلَّم؛ حتَّى نسمع قولك، إنَّا والله ما رأينا سَخْلَةً قطُّ أشأم على قومك منك! فرَّقت جماعتنا وشتَّت أمرنا وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب؛ حتَّى لقد طار فيهم: أنَّ في قريش ساحراً، وأنَّ في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى! أن يقوم بعضنا إلى بعضٍ بالسيُّوف حتَّى نتفانى.

أيُّها الرَّجل! إن كان إنَّما بك الحاجة؛ جمعنا لك من أموالنا حتَّى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنَّمـا بك الباءة فاختر أيَّ نسـاء قريش شئت؛ فلنزوِّجك عشراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فرغت؟» قـال: نعم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ﴿حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آياتهُ قرآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فصلت: 1 - 3] إلى أن بلغ ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصلت: 13]، فقال عتبة: حسبك! ما عندك غير هذا؟ قال: «لا» فرجع إلى قريشٍ، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنَّكم تكلِّمونه إلا كلَّمته، قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم (ابن كثير، 1988، ص 3/68-69).

وفي روايـة ابن إسحاق: فلـمَّا جلس إليهم؛ قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟! قال: ورائي أني سمعتُ قولاً والله ما سمعتُ مثله قطُّ! والله ما هو بالشعر ولا بالسِّحر، ولا بالكهانة!.. يا معشر قريش! أطيعوني، واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرَّجل وبين ما هو فيـه، فاعتزلـوه، فوالله ليكونَّن لقولـه الَّذي سمعت منه نبأٌ عظيم، فإن تُصِبْـه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يَظْهَـر على العرب، فملكه مُلْككم وعزُّه عزُّكم، وكنتم أسعدَ النَّاس به، قالوا: سَحَرَك والله يا أبا الوليد بلسانه؟ قال: هذا رأيي فيه؛ فاصنعوا ما بدا لكم (ابن هشام، د.ت، ص 1/294).

وذكرت بعض كتب السِّيرة أنَّ قيادات مكَّة دخلوا في عدة مفاوضاتٍ بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرضوا عليه إغراءات تلين أمامها القلوب البشريَّة، ممَّن أراد الدُّنيا وطمع في مغانمها، إلا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اتَّخذ موقفاً حاسماً في وجه الباطل دون مراوغة أو مداهنةٍ، أو دخولٍ في دهاءٍ سياسيٍّ، أو محاولة لإيجاد رابطة استعطافٍ أو استلطافٍ مع زعماء قريش (الأسطل، 1984، ص 37)؛ لأنَّ قضية العقيدة تقوم على الوضوح والصَّراحة والبيان، بعيدةً عن المداهنة والتَّنازل؛ ولذلك ردَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليهم بقوله: «ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشَّرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكنَّ الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلَّغْتُكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به؛ فهو حظُّكم في الدُّنيا والآخرة، وإن تردُّوه عليَّ؛ أصبر لأمر الله حتَّى يحكم الله بيني وبينكم».

بهذا الموقف الإيمانيِّ الثَّابت رجع كيدهم في نحورهم، وثبتت قضيَّةٌ من أخطر قضايا العقيدة الإسلاميَّة، وهي خلوص العقيدة من أيِّ شائبةٍ غريبةٍ عنها، سواءٌ في جوهرها أو في الوسيلة الموصلة إليها (الغضبان، 1998، ص 1/305).

ومن الدروسٌ والعبر التي نستخلصها من تلك المفاوضات ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها:

1 - أن رَّسول صلى الله عليه وسلم لم يدخل في معركةٍ جانبيَّةٍ حول أفضليته على أبيه وجدِّه، أو أفضليتهما عليه، ولو فعل ذلك لقُضِيَ الأمرُ دون أن يسمع عتبة شيئاً.

2 - لم يخضْ صلى الله عليه وسلم معركة جانبيَّةً حول العُروض المغرية، وغضبه الشَّخصيِّ لهذا الاتِّهام؛ إنَّما ترك ذلك كله لهدفٍ أبعد، وترك عتبة يعرض كلَّ ما عنده، وبلغ من أدبه صلى الله عليه وسلم أن قال: «أفرغت يا أبا الوليد؟!» فقال: نعم (الغضبان، 1988، ص 33).

3 - وكان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاسماً، وإنَّ اختياره لهذه الآيات لدليلٌ على حكمته، وقد تناولت الآيات الكريمة قضايا رئيسيةً كان منها: أنَّ هذا القرآن تنزيلٌ من الله، وبيان موقف الكافرين وإعراضهم، وبيان مهمَّة الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وأنَّه بشرٌ، وبيان: أنَّ الخالق واحدٌ هو الله، وأنَّه خالق السَّموات والأرض، وبيان تكذيب الأمم السَّابقة، وما أصابها، وإنذار قريشٍ صاعقةً مثل صاعقة عادٍ وثمود (الشامي، 1992، ص 75).

4 – كما يمكن أن نرى خطورة المال والجاه والنِّساء على الدُّعاة، فكم من الدُّعاة سقط في الطَّريق تحت بريق المال! وكم عُرِضت الآلاف من الأموال على الدُّعاة ليكفُّوا عن دعوتهم! والذين ثبتوا أمام إغراء المال هم المقتدون بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وخطورة الجاه واضحةٌ؛ لأنَّ الشَّيطان في هذا المجال يزيِّن ويغوي بطرقٍ أكبر وأمكر وأفجر، والدَّاعية الرَّبَّانيُّ هو الَّذي يتأسَّى برسول الله صلى الله عليه وسلم في حركته وأقواله وأفعاله، ولا ينسى الهدف الذي يعيش ويموت من أجله: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾.

5 – وقد تأثُّر عتبة من موقف النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان هذا التأثير واضحاً لدرجة أنَّ أصحابه أقسموا على ذلك التَّأثير قبل أن يخبرهم، فبعد أن كان العدوُّ ينوي القضاء على الدَّعوة، إذا به يدعو لعكس ذلك، فيطلب من قريش أن تخلِّيَ بيـن محمَّد صلى الله عليه وسلم وما يريد (أحمد، 1417ه، ص 87).

6 – كما أن استماع الصَّحابة لما حدث بين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعتبة، وكيف رفض حبيبهم صلى الله عليه وسلم كلَّ عروضه المغرية، جعل من ذلك درساً تربويّاً خالط أحشاءهم، فتعلَّموا منه الثَّبات على المبدأ والتَّمسُّك بالعقيدة، ووضع المغريات تحت أقدامهم.

7 - تعلَّم الصَّحابة من الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم الحلم ورحابة الصَّدر، فقد استمع صلى الله عليه وسلم إلى تُـرَّهات عتبة بن ربيعة ونيله منه، وقوله عنه: «إنَّ في قريشٍ ساحراً» و«إنَّ في قريشٍ كاهناً»، و«ما رأينا سَخْلَةً قطُّ أشأم على قومك منك»، و«إن كان الذي يأتيك رَئِيّاً من الجنِّ»، فقد أعرض عنه صلى الله عليه وسلم، وأغضَّ عن هذا السِّباب، بحيث لا يصرفه ذلك عن دعوته وتبليغه إيَّاها لسيد بني عبد شمس، فقد كانت كلُّ كلمةٍ تصدر من سيِّد الخلق صلى الله عليه وسلم مبدأً يُحتذى، وكلُّ تصرفٍ دِيناً يُتَّبع، وكلُّ إغضاءٍ خُلُقاً يُتأسَّى به (الغضبان، 1998، ص 1/304).

كان رد رسول الله صلى الله عليه وسلم حاسماً على زعماء قريش المشركين، بدون مساومة ولا مشابهة، ولا حلول وسط، ولا ترضياتٍ شخصيَّة؛ فإنَّ الجاهليَّة جاهليَّةٌ والإسلام إسلامٌ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، والفارق بينهم كبير، كالفرق بين التِّبْرِ والتُّراب، والسَّبيل الوحيد هو الخروج عن الجاهليَّة بجملتها إلى الإسلام بجملته، عبادةً وحكماً، وإلا فهي البراءة التَّامَّة والمفاصلة الكاملة، والحسم الصَّريح بين الحقِّ والباطل في كلِّ زمانٍ ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (سيد قطب، 1980، ص 6/3991).

المراجع:

1. أحمد، إبراهيم علي محمد، (1417ه)، في السِّيرة النَّبويَّة جوانب الحذر والحماية، الطَّبعة الأولى رجب 1417 هـ، وزارة الأوقاف - بدولة قطر.

2. الأسطل، رضوان أحمد، (1984)، الوفود في العهد المكِّيِّ وأثره الإعلاميِّ، الطَّبعة الأولى 1404 هـ 1984 م، دار المنار - الأردن، عمَّان.

3. ابن هشام، أبو محمد بن عبدالملك، (د.ت)، السِّيرة النَّبويَّة، دار الفكر، بدون تاريخ.

4. ابن كثير، (1988)، البداية والنِّهاية، الطَّبعة الأولى - 1408 هـ 1988 م، دار الرَّيان للتُّراث.

5. سيد قطب، (1980)، في ظلال القرآن، دار الشُّروق، الطَّبعة التَّاسعة، 1400 هـ 1980 م.

6. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 241-246.

7. الشامي، صالح أحمد، (1992)، مِنْ معين السِّيرة، المكتب الإسلامي، الطَّبعة الثانية، 1413 هـ 1992م.

8. الغضبان، منير، (1998)، التَّربية القياديَّة، دار الوفاء - المنصورة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1998 م.

9. الغضبان، منير محمد، (1988)، التَّحالف السِّياسيُّ في الإسلام، دار السَّلام، الطبعة الثانية، 1408 هـ 1988 م.

#القرآن


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022