التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (22)
"أسرى بدر وفقه تعامل الإسلام مع أسرى الحروب"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
بعد انتصار المسلمين في غزوة بدر، وظهور الحق على الباطل، وقع العديد من أسرى المشركين في أيدي المسلمين، وقد حدث اختلافٌ في الرأي حول كيفية التعامل معهم، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: فلـمَّا أسروا الأُسارى، قال رسول الله (ﷺ) لأبي بكرٍ، وعمر رضي الله عنهما: «ما ترون في هؤلاء الأُسارى؟» فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا نبيَّ الله! هم بنو العمِّ، والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فديةً، فتكون لنا قوَّةً على الكفَّار، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام، فقال رسول الله (ﷺ): «ما ترى يابن الخطاب؟» قال: لا والله يا رسول الله! ما أرى الَّذي يراه أبو بكر، ولكنِّي أرى أن تُمَكِنَّا منهم، فنضرب أعناقهم، فتمكِّن عليّاً من عَقِيلٍ، فيضرب عنقه، وتمكنِّي من فلانٍ (نسيباً لعمر) فأضرب عنقه؛ فإنَّ هؤلاء أئمَّة الكفر، وصناديدها، فهوي رسولُ الله (ﷺ) ما قال أبو بكر، ولم يَهْوَ ما قلتُ، فلـمَّا كان من الغد جئت؛ فإذا رسولُ الله (ﷺ) ، وأبو بكر قاعدان يبكيان، قلت: يا رسول الله! أخبرني من أيِّ شيءٍ تبكي أنت وصاحبُك، فإن وجدت بكاءً؛ بكيت، وإن لم أجد بكاء؛ تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله (ﷺ) : «أبكي لِلَّذي عَرَضَ عليَّ أصحابُك من أخذهم الفداء، لقد عُرِضَ عليَّ عذابُهم أدنى من هذه الشَّجرةِ» - شجرةٍ قريبةٍ من نبيِّ الله (ﷺ) -.
وأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا﴾ فأحلَّ الله الغنيمة لهم.[(1/30 - 31)، ومسلم (1763)، وأبو داود (2690)، والترمذي (3081)].
وفي رواية عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: لـمَّا كان يوم بدرٍ؛ قال رسول الله (ﷺ):
«ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله! قومُك، وأهلُك، اسْتَبْقِهِم، واسْتَأْنِ بهم، لعلَّ الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله! أخرجوك، وكذَّبوك؛ فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله! انظر وادياً كثير الحطب، فأدخلهم فيه، ثمَّ أضرم عليهم ناراً، فقال العبَّاس: قطعت رحمك! فدخل رسول الله (ﷺ) ولم يردَّ عليهم شيئاً، فقال ناسٌ: يأخذ بقول أبي بكرٍ، وقال ناسٌ: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، فخرج عليهم رسول الله (ﷺ) فقال: «إنَّ الله ليُليِّن قلوب رجالٍ فيه؛ حتَّى تكون ألين من اللَّبن، وإنَّ الله لَيَشُدُّ قلوب رجالٍ فيه؛ حتَّى تكون أشدَّ من الحجارة، وإنَّ مثلك يا أبا بكر! كمثل إبراهيم عليه السلام، إذ قال: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [إبراهيم: 36]، ومثلك يا أبا بكر! كمثل عيسى عليه السلام؛ إذ قال: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الأنفال: 118]، وإنَّ مثلك يا عمر كمثل نوحٍ؛ إذ قال: ﴿رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: 26]. وإنَّ مثلك يا عمر! كمثل موسى عليه السلام؛ إذ قال: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾ [يونس: 88]. ثمَّ قال (ﷺ): «أنتم عالة، فلا يَنْفَلِتَنَّ منهم أحد إلا بفداءٍ، أو ضربة عنقٍ».
قال عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: فقلت: يا رسول الله! إلا سُهيل بن بيضاء؛ فإنِّي قد سمعته يذكر الإسلام، قال: فسكت، قال: فما رأيتُني في يومٍ أخوف أن تقع عليَّ حجارةٌ من السَّماء في ذلك اليوم؛ حتَّى قال: «إلا سهيل بن بيضاء» فأنزل الله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ...﴾ إلى آخر الآية. [(1/383 - 384)، وأبو يعلى (5187)، والترمذي (1714 و3085)، والحاكم (3/21 - 22)].
وهذه الآية تضع قاعدةً هامَّةً في بناء الدَّولة حينما تكون في مرحلة التَّكوين، والإعداد، وكيف ينبغي ألا تظهرَ بمظهر اللِّين؛ حتَّى تُرْهَب من قِبَلِ أعدائها، وفي سبيل هذه الكلِّيَّة يُطرح الاهتمام بالجزئيَّات - حتَّى ولو كانت الحاجة ملحةً إليها – (الشامي، 1992، ص 209). وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه لـمَّا شرع الصَّحابة في أسر المشركين كره ذلك، ورأى رسولُ الله (ﷺ) الكراهية في وجه سعدٍ لما يصنع النَّاس؛ فقال له رسول الله (ﷺ) : «والله! لكأنَّك يا سعدُ! تكره ما يصنعُ القوم!» قال: أجل والله! يا رسول الله! كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشِّرك، فكان الإثخان بالقتل أحبَّ إليَّ من استبقاء الرَّجل. [ابن هشام (2/280 - 281)] (الغضبان، 1998، ص 1/141).
وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه قال: كان ناسٌ من الأُسارى يوم بدرٍ ليس لهم فداءٌ، فجعل رسولُ الله (ﷺ) فداءهم أن يُعَلِّموا أولاد الأنصار الكتابة (العمري، 1992، ص 261)، وبذلك شرع الأسرى يعلِّمون غلمان المدينة القراءة، والكتابة، وكلُّ مَنْ يُعَلِّم عشَرةً من الغلمان يفدي نفسه (الغضبان، 1998، 3/74)، وقَبول النَّبيِّ (ﷺ) تعليم القراءة والكتابة بدل الفداء في ذلك الوقت الَّذي كانوا فيه في أشدِّ الحاجة إلى المال، يُرينا سموَّ الإسلام في نظرته إلى العلم، والمعرفة، وإزالة الأميَّة، وليس هذا بعجيبٍ مِنْ دينٍ كان أوَّل ما نزل من كتابه الكريم: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ [العلق: 1 - 4]. واستفاضت فيه نصوصُ القرآن، والسُّنَّة في التَّرغيب في العلم، وبيان منزلة العلماء، وبهذا العمل الجليل يُعتبر النَّبيُّ (ﷺ) أوَّل من وضع حجر الأساس في إزالة الأمِيَّة، وإشاعة القراءة، والكتابة، وأنَّ السَّبق في هذا للإسلام.
كانت معاملة النَّبيِّ (ﷺ) للأسرى تحفُّها الرَّحمة، والعدل، والحزم، والأهداف الدَّعوية؛ ولذلك تعدَّدت أساليبه، وتنوَّعت طرق تعامله(ﷺ) ، فهناك من قتله، وبعضهم قبل فيهم الفداء، والبعض الآخر منَّ عليهم، وآخرون اشترط عليهم تعليم عشرة من أبناء المسلمين مقابل المنِّ عليهم.
المراجع:
1. العمري، أكرم، (1992)، السِّيرة النَّبويَّة الصَّحيحة، الطَّبعة الأولى 1412هـ 1992م مكتبة المعارف والحِكَم بالمدينة المنوَّرة.
2. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 551-553.
3. الشامي، صالح أحمد، (1992)، مِنْ معين السِّيرة، المكتب الإسلامي، الطَّبعة الثانية، 1413 هـ 1992م.
4. الغضبان، منير، (1998)، التَّربية القياديَّة، دار الوفاء - المنصورة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1998 م.