التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (24)
"محاولة اغتيال النَّبيِّ (ﷺ) وإسلام عُمير بن وهب (شيطان قريش)"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
كان من أهم الأحداث والوقائع التي حدثت بعد انتصار المسلمين في غزوة بدر، هي محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم على يد عمير بن وهب الجمحي رضي الله عنه – الذي أسلم فيما بعد -، فعن عروة بن الزُّبير قال: جلس عُمير بن وهب الجُمَحيُّ مع صفوان بن أميَّة في الحِجْر، بعد مصاب أهل بدرٍ بيسير، وكان عمير بن وهب شيطاناً من شياطين قريش، وممَّن كان يؤذي رسولَ الله (ﷺ) وأصحابه، ويلقون منه عناءً وهو بمكَّة، وكان ابنه وهب بن عُمير في أُسارى بدر، فذكر أصحاب القَلِيب ومُصابهم، فقال صفوان: واللهِ! إِنْ في العيش بعدهم خيرٌ.
قال له عُمَيْرٌ: صدقتَ! أما والله ! لولا دينٌ عليَّ ليس عندي قضاؤه، وعيالٌ أخشى عليهم الضَّيعة بعدي؛ لركبتُ إلى محمَّدٍ حتَّى أقتلَه، فإنَّ لي فيهم عِلَّة – أي: سبب -؛ ابني أسيرٌ في أيديهم.
قال: فاغتنمها صفوان بن أميَّة، فقال: عليَّ دينُك، أنا أقضِهِ عنك، وعيالُك مع عيالي أُواسيهم ما بَقُوا، لا يسعني شيءٌ ويعجِز عنهم، فقال له عُمَيْرٌ: فاكتم شأني وشأنك. قال: أَفعَلُ.
قال: ثمَّ أمر عُمَيْرٌ بسيفه، فشُحِذ له وسُمَّ، ثمَّ انطلق حتَّى قدم المدينة، فبينما عمرُ بن الخطاب في نفرٍ من المسلمين يتحدَّثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم في عدوِّهم؛ إذ نظر عمرُ إلى عُمَيْرِ بن وهبٍ، وقد أناخ راحلتَه على باب المسجد متوشِّحاً سيفه فقال: هذا الكلب عدوُّ الله عُمَيْرُ بنُ وهبٍ، والله! ما جاء إلا لشرٍّ، وهو الَّذي حرَّش بيننا، وحزَرنا – أي: قدّرنا بالتخمين - للقوم يوم بدرٍ.
ثم دخل عمر على رسول الله (ﷺ) فقال: يا نبيَّ الله! هذا عدوُّ الله عُمَيْرُ بن وهبٍ قد جاء متوشِّحاً سيفه.
قال: «فأَدْخله عليَّ»، قال: فأقبل عمر حتَّى أخذ بحِمَالَةِ سيفه في عنقه فَلَبَّبَهُ – أي: جمع ثيابه عند نحره - بها، وقال لرجالٍ ممَّن كانوا معه من الأنصار: ادْخُلُوا على رسول الله (ﷺ) فاجلسوا عنده، واحذورا عليه من هذا الخبيث، فإنَّه غير مأمونٍ.
ثمَّ دُخل به على رسول الله (ﷺ)، فلـمَّا رآه رسول الله (ﷺ) وعمر آخذٌ بحِمَالَة سيفه في عنقه، قال: «أرسله يا عمر! ادْنُ يا عُمَيْرُ!».
فدنا، ثمَّ قال: انعموا صباحاً - وكانت تحيَّة أهل الجاهلية بينهم - فقال رسول الله (ﷺ): «أكرمنا الله بتحيَّةٍ خيرٍ من تحيَّتك يا عمير! بالسَّلام تحية أهل الجنَّة»().
فقال: أما والله يا محمد! إن كنتُ بها لحديث عهدٍ.
فقال: «فما جاء بك يا عُمَيْرُ؟!» قال: جئت لهذا الأسير الَّذي في أيديكم، فأحسنوا فيه.
قال: «فما بالُ السَّيف في عنقك؟» قال: قَبَّحَها اللهُ من سيوف! وهل أغنت عنا شيئاً؟!
قال: «اصْدُقْني، ما الَّذي جئتَ له؟» قال: ما جئتُ إلا لذلك.
قال: «بل قعدت أنت وصفوانُ بنُ أميَّة في الحِجْر، فذكرتما أصحاب القَلِيب من قريشٍ، ثمُ قُلْتَ: لولا دَيْنٌ عليَّ وعيالٌ عندي، لخرجت حتَّى أقتل محمَّداً، فتحمَّل لك صفوان بن أميَّة بدَيْنك وعيالك على أن تقتلني له، واللهُ حائلٌ بينك وبين ذلك».
قال عُمَيْرُ: أشهد أنَّك رسولُ الله، قد كنَّا يا رسول الله! نكذِّبك بما كنت تأتينا به من خبر السَّماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمرٌ لم يحضرْه إلا أنا وصفوان، فوالله! إنِّي لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الَّذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثمَّ شهد شهادة الحقِّ.
فقال رسول الله (ﷺ): «فقِّهوا أخاكم في دينه، وأقرِئُوه القرآن، وأَطْلِقُوا له أسيره»، ففعلوا.
ثمَّ قال: يا رسولَ الله! إنِّي كنت جاهداً على إطفاء نور الله، شديدَ الأذى لمن كان على دين الله - عزَّ وجلَّ -، وأنا أحبُّ أن تأذن لي فأقدم مكَّة، فأدعوهم إلى الله تعالى، وإلى رسوله (ﷺ) وإلى الإسلام، لعلَّ الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم ما كنت أوذي أصحابك في دينهم، قال: فأذن له رسول الله (ﷺ) فلحق بمكَّة، وكان صفوان بن أميَّة حين خرج عمير بن وهب، يقول: أبشروا بوقعةٍ تأتيكم الآن في أيَّامٍ، تُنْسيكم وقعة بدرٍ، وكان صفوان يسأل عنه الرُّكبان، حتَّى قدم راكبٌ فأخبره بإسلامه، فحلف ألاَّ يكلِّمه أبداً، ولا ينفعه بنفعٍ أبداً. [الطبراني في الكبير (17/58)، ومجمع الزوائد (8/286)، والإصابة (3/37)] (الطرهوي، 1414ه، ص 259-260).
وفي هذه القصَّة دروسٌ وعبر؛ منها:
1 - حِرْص المشركين على التَّصفية الجسديَّة للدُّعاة؛ فهذا صفوان بن أميَّة، وعُمَيْر بن وهب، يتَّفقان على قتل النَّبيِّ (ﷺ)، وهذا يرشدنا إلى أنَّ أعداء الدَّعوة قد لا يكتفون برفض الدَّعوة والتَّشويش عليها، وصدِّ النَّاس عنها؛ بل يحاولون اغتيال الدُّعاة، وتدبير المؤامرات لقتلهم، وقد يستأجرون المجرمين لتنفيذ هذا الغرض الخسيس (زيدان، 1997، ص 2/159)، وقد يستغلُّ الأغنياء المُتْرفون من أعداء الدَّعوة حاجة الفقراء وفقرهم، فيوجِّهونهم لقاء مبلغ من المال إلى خدمة مآربهم، وإنْ أدَّى ذلك إلى هلاكهم، فها هو صفوان قد استغل فقر عُمَيْرٍ، وقلَّة ذات يده ودَيْنَهُ؛ ليرسله إلى هلاكه (أبو فارس، 1982، ص 82).
2 - ظهور الحسِّ الأمنيِّ الرَّفيع الَّذي تميَّز به الصَّحابة رضي الله عنهم، فقد انتبه عمر بن الخطَّاب لمجيء عمير بن وهبٍ، وحذَّر منه، وأعلن أنَّه شيطانٌ ما جاء إلا لشرٍّ، فكان تاريخه معروفاً لدى عمر، فقد كان يؤذي المسلمين في مكَّة، وهو الذي حرَّض على قتال المسلمين في بدرٍ، وعمل على جمع معلوماتٍ عن عددهم؛ ولذلك شرع عمر في أخذ الأسباب لحماية الرَّسول (ﷺ)، فمن جهته فقد أمسك بحِمَالة سيف عمير الَّذي في عنقه بشدَّةٍ، فعطَّله عن إمكانية استخدام سيفه للاعتداء على الرَّسول (ﷺ)، وأمر نفراً من الصَّحابة بحراسة النَّبيِّ (ﷺ).
3 - الاعتزاز بتعاليم هذا الدِّين، فقد رفض (ﷺ) أن يتعامل بتحيَّة الجاهليَّة، ولم يردَّ على تحيَّة عُمَيْرٍ حين قال له: انعموا صباحاً، وأخبره بأنَّه لا يُحيِّي بتحيَّة أهل الجاهلية؛ لأنَّ الله تعالى أكرم المسلمين بتحيَّة أهل الجنَّة.
4 - سموُّ أخلاق النَّبيِّ (ﷺ)، فقد أحسن إلى عُمَيْرٍ وعفا عنه؛ مع أنَّه جاء ليقتله (أبو فارس، 1982، ص 83)؛ بل أطلق ولده الأسير بعد أن أسلم عُمَيْرٌ، وقال لأصحابه: «فقِّهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأَطْلِقُوا له أسيره» (الطرهوي، 1414ه، ص 260).
5 - قـوَّة إيمان عُمَيْرٍ، فقد قـرَّر أن يواجه مكَّـة كلَّها بالإسلام، وقد أذن لـه رسول الله(ﷺ)، وفعل وواجه وتحدَّى، وعاد أدراجه إلى المدينة، وأسلم على يديه ناسٌ كثير، وكان حين تُعَدُّ الرِّجال يطرحه عمر رضي الله عنه ممَّن يزن عنده ألف رجلٍ، وكان أحد الأربعة الَّذين أمدَّ بهم أميرُ المؤمنين عُمَرُ عمرَو بن العاص رضي الله عنهم، الَّذين كان كلُّ واحدٍ منهم بألفٍ (الغضبان، 1998، ص 3/73).
المراجع:
1. أبو فارس، محمد عبدالقادر، (1982)، غزوة بدر الكبرى، دار الفرقان، الطَّبعة الأولى 1402هـ 1982م.
2. زيدان، عبدالكريم، (1997)، المستفاد من قصص القرآن للدَّعوة والدُّعاة، مؤسَّسة الرِّسالة، الطَّبعة الأولى 1418 هـ 1997 م.
3. الطرهوي، محمد رزق، (1414ه)، صحيح السِّيرة النَّبويَّة، مكتبة ابن تيميَّة - القاهرة، الطَّبعة الأولى 1414هـ.
4. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 23-27.
5. الغضبان، منير، (1998)، التَّربية القياديَّة، دار الوفاء - المنصورة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1998 م.