التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (23)
"الخلاف في الأنفال وتأديب الله تعالى لعباده المؤمنين"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
عن عبادةَ بن الصَّامت رضي الله عنه قال: خرجنا مع النَّبيِّ (ﷺ)، فشهدت معه بدراً، فالتقى النَّاس، فهزم الله - تبارك وتعالى - العدوَّ، فانطَلَقَتْ طائفةٌ في آثارهم يَهْزِمون ويقتلون، وأكبَّت طائفةٌ على العسكر يَحْوُونه ويجمعونه، وأحدقت طائفةٌ برسول الله (ﷺ)؛ لا يصيب العدوُّ منه غِرَّةً؛ حتَّى إذا كان اللَّيل، وفَاءَ النَّاسُ بعضُهم إلى بعضٍ. قال الَّذين جمعوا الغنائم: نحن حَوَيَنْاها، وجمعناها؛ فليس لأحدٍ فيها نصيبٌ، وقال الَّذين خرجوا في طلب العدوِّ: لستم بأحقَّ بها منَّا؛ نحن نَفَيْنا عنها العدوَّ وهزمناهم، وقال الَّذين أحدقوا برسول الله (ﷺ): لستم بأحقَّ بها مِنَّا؛ نحن أحدقنا برسول الله (ﷺ)، وخِفنا أن يصيب العدوُّ منه غرَّةً، واشتغلنا به؛ فنزلت: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 1]؛ فقسمها رسول الله (ﷺ) على فُوَاقٍ بين المسلمين [أحمد (5/324)].
وفي روايةٍ: قال عبادة بن الصَّامت عن الأنفال حين سُئِلَ عن سورة الأنفال: فينا معشر أصحـاب بدرٍ نزلت حين اختلفنـا في النَّفل – الغنيمة -، وساءت فيـه أخلاقُنا، فانتزعه الله تبـارك وتعالى من أيدينا، فجعلـه إلى رسول الله (ﷺ)، فقسمـه رسول الله (ﷺ) فينا عن بواءٍ. يقول: على السَّواء. [أحمد (5/322)].
لقد خلَّد الله - سبحانه وتعالى - ذكرى غزوة بدرٍ في سورة الأنفال، وجاءت مفصلةً عن أحداثها وأسبابها ونتائجها، وتعرَّضت الآيات الكريمة لعلاج النَّفس البشريَّة، وتربيتها على معاني الإيمان العميق والتَّكوين الدَّقيق، قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 14].
فبدأت السُّورة بتبيان حكم أثـرٍ من آثار القتال، وهو الغنائـم، فبيَّنت: أنَّ هـذه الغنائـم لله والرَّسول، فالله هو مالـك كلِّ شيءٍ، ورسوله (ﷺ) هو خليفتهُ، ثمَّ أمر الله المؤمنين ثلاثة أوامر:
بالتَّقوى وإصلاح ذات البين، والطَّاعة لله والرَّسول (ﷺ)، وهي أوامر مهمَّة جدّاً في موضوع الجهاد؛ فالجهاد إذا لم ينشأ عن تقوى فليس جهاداً، والجهاد يحتاج إلى وحدة صفٍّ، ومن ثَمَّ فلا بدَّ من إصلاح ذات البين، والانضباط هو الأساس في الجهاد؛ إذ لا جهاد بلا انضباط، ثمَّ بيَّن الله - عزَّ وجلَّ -: أنَّ الطَّاعة لله ولرسوله (ﷺ) علامةُ الإيمان. وحدَّد الله - عزَّ وجلَّ - صفات المؤمنين الحقيقيين، وهذا الوصف والتَّحديد مهمَّان في موضوع الجهاد الإسلاميِّ؛ لأنَّ الإيمان الحقيقي هو الَّذي يقوم به الجهاد الإسلاميُّ. لقد حدَّد الله - عزَّ وجلَّ - صفات المؤمنين؛ بأنَّهم إذا ذكر الله؛ فزعت قلوبهم وخافت وفرقت، وإذا قرئ عليهم القرآن ازداد إيمانهم ونما.
والصِّفة الثَّالثة هي: التوكُّل على الله، فلا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إيَّاه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون: أنَّ (ما شاء الله؛ كان، وما لم يشأ؛ لم يكن)، وأنَّه المتصرِّف في الخلق وحده لا شريك له، ولا معقِّب لحكمه، وهو سريع الحساب.
والصِّفة الرَّابعة: إقامة الصَّلاة، والمحافظة على مواقيتها، ووضوئها وركوعها وسجودها، ومن ذلك إسباغ الطَّهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهُّد، والصَّلاة على النَّبيِّ (ﷺ).
والصفة الخامسة: الإنفاق ممَّا رزقهم الله، وذلك يشمل إخراج الزَّكاة، وسائر الحقوق للعباد من واجبٍ ومستحبٍّ، والخلق كلُّهم عباد الله؛ فأحبُّهم إليه أنفعهم لخلقه، ثمَّ بيَّن الله - عزَّ وجلَّ - أنَّ المتَّصفين بهذه الصِّفات هم المؤمنون حقَّ الإيمان، وأنَّ لهم عند الله منازلَ، ومقامات، ودرجات في الجنَّات، وأنَّ الله يغفر لهم السَّيِّئات ويشكر الحسنات، وبهذا تنتهي مقدِّمة السُّورة بعد أن رفعت الهمم لكلِّ لوازم الجهاد، ونَفَتْ كلَّ عوامل الخذلان؛ من اختلافٍ على غنائم، أو خلافٍ بسبب شيءٍ، داعيةً إلى الطَّاعة، والارتفاع إلى منازل الإيمان الكامل (حوى، د.ت، ص 4/ 2113-2114).
يقول الأستاذ محمَّد أمين المصري: لم تذكر الآيات شيئاً من أعمال المؤمنين في بدرٍ، ولكن ذكرت عتاباً أليماً موجعاً، يَحْمِلُ المؤمنين على الرُّجوع إلى أنفسهم، والاستحياء من ربِّهم، وهناك نقاطٌ أرسلت الآيات النُّقاط عليها، وبيَّنت نواحي الضَّعف فيه بياناً جليّاً قويّاً بتصوير ما في النفوس وصفاً دقيقاً رائعاً، تشاهد العين فيه الحركات والخلجات.
وكلُّ ذلك من شأنه أن ينبه ضمير المؤمن؛ ليلمس المسافة بينه وبين درجات الإيمان؛ الَّتي يهفو قلبُه للوصول إليها، ولقد كانت الآيات من تربية الحكيم العليم، ويشعر الذَّوق السَّليم هاهنا روعة الأسلوب في عرض العتاب بغير عتاب؛ ولكنَّه تصوير ما في النُّفوس تصويراً يوقن معه العادي من النَّاس: أنَّه ما كان لمؤمنٍ صحيح الإيمان أن يتَّصف بها، ولذلك اقترنت الآيات بتقديم خصائص الإيمان العالية وميِّزاته الرَّفيعة، الَّتي تصوِّر الفجوة البعيدة بين المؤمن وبين أيِّ إسفاف: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 2 - 4].
وتؤكد الآيات حقيقةً أكبر من النَّصر على المشركين، وهي أنَّ صلاح ذات البين، والانتصار الحقيقيَّ على مسارب النُّفوس، ومشارب القلوب هو الأكبر في ميزان الله، وهو الأعظم في ميزان الله، ولا جدوى من نصرٍ يعقبه صراعٌ في الصَّفِّ واختلافٌ في القلوب.
وتبيِّن الآيات: أنَّ قضيَّة التَّقوى والإيمان، تدخل في شؤون حياة المسلم كافَّةً، وبها ينبع تحرُّكه في الحياة، وجهاده لإعلاء كلمة الله تعالى (الغضبان، 1991، ص 1/52).
لقد استجاب الصَّحابة الكرام رضي الله عنهم لهذا التَّوجيه الرَّبانيِّ، ونزلت الآيات تبيِّن لرسول الله (ﷺ) كيف يتصرَّف في الأنفال. وبعد أن أصبحت الغنائم لله ولرسوله (ﷺ) بيَّن المولى - عزَّ وجلَّ - كيف توزَّع هذه الغنائم. قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال: 41].
وهذا بعدما طَهُرَتْ قلوبهم من الأخلاط، وأخلصت إلى علاَّم الغيوب في الطَّاعة، وتمثَّلت الآيات، فتحقَّقت بمعنى العبودية الخالصة لله، وهذا الحكم صريحٌ في أنَّ أربعة أخماس ما غنموه مقسومٌ بينهم، والخمس لله، ولرسوله (ﷺ)، وهذا الخمس نفسه مردودٌ فيهم أيضاً، وموزَّع على الجهات المذكورة - كما ثبت بالسُّنَّة -. إنَّ التَّوجيه التَّربويَّ في إرجاء إنزال جواب السُّؤال عن الغنائم، يشير إلى أنَّ الأحكام الشَّرعيَّة ينبغي أن يهيَّأ لها الجوُّ النَّفسيُّ الرُّوحيُّ المناسب؛ لتحتلَّ مكانها اللائق في العقل والضَّمير، فتثبت وتتمكَّن.
وتؤتي أطيب النتائج؛ إذ يتجلَّى فيها أكمل الحلول، وهكذا صرف المولى - جلَّ شأنُه - عباده المسلمين عن التعلُّق بالغير أوَّلاً، وبالغنائم ثانياً؛ ليكونوا له من المخلصين الجديرين بنصره وإتمام نعمته، فلـمَّا تفرَّغوا للخالق وأخلصوا في الجهاد؛ أكرمهم بالنَّصر من لدنه، وأسبغ عليهم من فضله بأكثر ممَّا كانوا يودُّون (فيض الله، 1996، ص 61-62)، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله (ﷺ) يوم بدر في ثلاثمئة وخمسة عشر رجلاً من أصحابه، فلما انتهى إليها قال: «اللهم إنهم جياع فأشبعهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكْسُهُم» ففتح الله له يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا، وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين، واكتَسَوْا وشبعوا. [أبو داود (2747)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/57)، والحاكم (2/132 - 133، 145)].
المراجع:
1. حوى، سعيد، (د.ت)، الأساس في التفسير، دار السلام، القاهرة.
2. فيض الله، محمد فوزي، (1996)، صورٌ وعبرٌ من الجهاد النَّبويِّ في المدينة، دار القلم - دمشق، الدَّار الشَّاميَّة - بيروت، الطَّبعة الأولى، 1416هـ 1996م.
3. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 5-10.
4. الغضبان، منير محمد، (1991)، المنهج التربويُّ للسِّيرة النَّبويَّة - التَّربية الجهاديَّة، مكتبة المنار، الطَّبعة الأولى، 1411 هـ 1991 م.