التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (21)
"مشورة الحُباب بن المُنْذِر في بدرٍ"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
بعد أن جمع صلى الله عليه وسلم معلوماتٍ دقيقةً عن قوَّات قريشٍ، سار مسرعاً ومعه أصحابه إلى بدرٍ؛ ليسبقوا المشركين إلى ماء بدرٍ، وليحولوا بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عند أدنى ماءٍ من مياه بدرٍ، وهنا قام الحُبَاب بن المُنذر، وقال: يا رسول الله! أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه اللهُ، ليس لنا أن نتقدَّمه، ولا نتأخَّر عنه؟ أم هو الرَّأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بل هو الرَّأي، والحرب، والمكيدة» قال: يا رسولَ الله! فإن هذا ليس بمنزلٍ، فانهضْ يا رسول الله بالنَّاس! حتَّى تأتي أدنى ماءٍ من القوم - أي: جيش المشركين - فننزله، ونغوِّر - نخرِّب - ما وراءه من الآبار، ثمَّ نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً، ثمَّ نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون. فأخذ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم برأيه، ونهض بالجيش حتَّى أقرب ماءٍ من العدوِّ، فنزل عليه، ثمَّ صنعوا الحِيَاضَ، وغوَّروا ما عداها من الآبار [ابن هشام (2/272)، والبيهقي في دلائل النبوة (3/35)].
وهذا يصوِّر مثلاً من حياة الرَّسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، حيث كان أيُّ فرد من أفراد ذلك المجتمع يُدْلي برأيه، حتَّى في أخطر القضايا، ولا يكون في شعوره احتمال غضب القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم، ثمَّ حصول ما يترتَّب على ذلك الغضب من تدنِّي سمعة ذلك المشير بخلاف رأي القائد، وتأخُّره في الرتبة، وتضرُّره في نفسه أو ماله.
إنَّ هذه الحرِّيَّة الَّتي ربَّى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، مكَّنت مجتمعهم من الاستفادة من عقول جميع أهل الرَّأي السَّديد والمنطق الرَّشيد، فالقائد فيهم ينجح نجاحاً باهراً، وإن كان حديثَ السِّنِّ؛ لأنَّه لم يكن يفكِّر برأيه المجرَّد، أو آراء عصبةٍ مهيمنةٍ عليه، قد تنظر لمصالحها الخاصَّة قبل أن تنظر لمصلحة المسلمين العامَّة؛ وإنَّما يفكِّر بآراء جميع أفراد جنده، وقد يحصل له الرَّأي السَّديد من أقلِّهم سمعةً، وأبعدهم منزلةً من ذلك القائد؛ لأنَّه ليس هناك ما يحول بين أيِّ فردٍ منهم، والوصول برأيه إلى قائد جيشه (الحميدي، 1997، ص 4/110)..
ونلحظ عظمة التَّربية النَّبويَّة؛ الَّتي سرَتْ في شخص الحُبَاب بن المُنذر، فجعلته يتأدَّب أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتقدَّم دون أن يُطلب رأيه؛ ليعرض الخطة الَّتي لديه؛ لكن هذا تمَّ بعد السُّؤال العظيم، الَّذي قدَّمه بين يدي الرَّسول صلى الله عليه وسلم : «يا رسولَ الله! أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدَّمه، ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرَّأي، والحرب، والمكيدة؟».
إنَّ هذا السُّؤال يوضِّح عظمة هذا الجوهر القياديَّ الفذَّ؛ الَّذي يعرف أين يتكلَّم، ومتى يتكلَّم بين يدي قائده، فإن كان الوحي هو الَّذي اختار هذا المنزل، فلأن يقدم، فتقطع عنقه أحبُّ إليه من أن يلفظ بكلمةٍ واحدةٍ، وإن كان الرأي البشريُّ؛ فلديه خطَّةٌ جديدةٌ كاملةٌ باستراتيجيَّةٍ جديدةٍ.
إنَّ هذه النَّفسيَّة الرَّفيعة، عرفت أصول المشورة، وأصول إبداء الرَّأي، وأدركت مفهوم السَّمع والطَّاعة، ومفهوم المناقشة، ومفهوم عرض الرَّأي المعارض لرأي سيِّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم . وتبدو عظمة القيادة النَّبويَّة في استماعها للخطَّة الجديدة، وتبنِّي الخطَّة الجديدة المطروحة من جنديٍّ من جنودها، أو قائدٍ من قوَّادها (الغضبان، 1998، ص 3/21).
المراجع:
1. الحميدي، عبد العزيز، (1997)، التَّاريخ الإسلاميُّ - مواقف وعبرٌ، دار الدَّعوة - الإسكندريَّة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ، 1997 م.
2. الغضبان، منير، (1998)، التَّربية القياديَّة، دار الوفاء - المنصورة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1998 م.
3. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 551-553.