في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
الشعراء ودورهم في حركة المقاومة السلجوقية
الحلقة: السابعة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رمضان 1441 ه/ مايو 2020
قام بعض الشعراء بدور كبير في تحريض المسلمين ، ووصف أحوال الأمة ، وطبيعة الغزو الصليبي الذي احتل البلاد، وهتك الأعراض. ومن أشهر ما قيل ما قاله القاضي الهروي ، وقيل: لأبي المظفر الأبيوردي القصيدة التي أولها:
مزجنا دماءً بالدُّموع السَّواجم
وشرُّ سلاح المرء دمعٌ يفيضه
فلم يبق منَّا عرضة للمراجم
إذا الحرب شُبت نارها بالصَّوارم
إنه في هذا المطلع يُصَرِّح ببكاء الناس بكاءً أنزل الدم من العيون لشدته ، واستمراره ، وأنهم بكوا حتى لم يبق فيهم مجال للندم ، ولكنه لا يلبث أن يفطن إلى أنَّ البكاء على شدَّته لن يغني في شيءٍ في معركة لا يسعِّر نيرانها إلا السيوف القواطع. ومنها:
فإيهاً بني الإسلام إنَّ وراءكم
أتهويمةً في ظلِّ أمن وغبطةٍ
وكيف تنام العين ملء جفونها
وإخوانكم بالشَّام يُضحي مقيلُهم
تسومهم الروم الهوان وأنتم
وقائع يلحقن الذُرا بالمناسم
وعيشٍ كنَّوار الخميلة ناعم
على هفوات أيقظت كلَّ نائم
ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
تجرُّون ذيل الخفض فعل المسالم
وهنا يستصرخ الشاعر المتخلفين عن القتال مع إخوانهم المسلمين في بلاد الشام ، فيبدأ هذه المقطوعة بتوجيه نداءٍ حارٍّ للمسلمين: إيهاً بني الإسلام أن اصْحُوا من نومكم فما دهمكم من الغزو يجعل أعزتكم أذلةً. ثم يعجب لهم ، ولنومهم؛ إذ كيف ينامون ملء عيونهم ، ويعيشون عيشاً ناعماً امناً وغير بعيد منهم تجري فظائع الأمور؛ التي تقع على رؤوس إخوانهم من أهل الشام ، فلا يجدون وقتاً قصيراً ينامون فيه في بيوتهم ، فجلُّ أوقاتهم على صهوات خيولهم يحاربون ، أو تكتب لهم الشهادة ، فتتخطفهم نسور الجو ، ولا من يدفن جثتهم ، وربما يقعون تحت إذلال أعدائهم من الفرنجة ، أما أنتم فيبدو عليكم التقلُّب في ثياب النعمة ، كأنكم مسالمون ، أو متحالفون مع الأعداء. ومنها:
وكم من دماءٍ قد أبيحت ومن دمىً
بحيث السيوفُ البيضُ محمرةُ الظُّبا
وبين اختلاسِ الطَّعن والضَّرب وقفةٌ
وتلك حروبٌ من يَغِبْ عن غِمارها
سَلَلْنَ بَأيدي المشركين قواضباً
يكاد لهنَّ المستجنُّ بطيبة
تواري حياءً حسنها بالمعاصم
وسُمْرُ العوالي دامياتُ اللِّهاذِم
تظلُّ لها الوِلْدانُ شيب القوادم
ليسلمَ يقرعْ بعدها سنَّ نادم
ستُغمد منهم في الطِّلا والجماجم
ينادي بأعلى الصَّوت يا آل هاشم
وفي هذه الأبيات يصور شراسة المعارك؛ التي وقعت بين المسلمين ، وأعدائهم من الفرنجة ، فقد أُبيحت فيها دماء كثير من المسلمين ، ولقد اقتحم فيها على النساء خدورهن ، وما وجَدْنَ ما يدفعن به عن أجسامهن المصونة غير معاصمهن المشتبكة حياءً ، وخوفاً ، وقد اشتدَّت هذه الحروب ، واستحرَّ فيها القتل؛ حتى بدت أسنَّة السيوف ، والرِّماح حمراء لاهبة ، حتى أنَّ الصبيان ربما يظهر في شعرهم الشيب لما فيها من هول الطَّعن ، والضرب. ثم يعود لتنبيه المتخلفين بأنَّهم سوف يندمون على تخلفهم عن الاشتراك في هذه الحروب؛ والتي يعود ليتحدث عن أخطارها ، فيهوِّن من شأن الأعداء ، وأسلحتهم فيما استلُّوه من سيوف قاطعة تعود إلى نحورهم ، وجماجمهم.
وفي اخر الأبيات يؤكد فظاعة هذه الحروب بأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم في ضريحه الطَّاهر في المدينة المنورة يستنجد على الأعداء ، بالعرب ، والمسلمين ، وليس بال هاشم فحسب، فيقول:
أرى أمتي لا يُشْرِعون إلى العِدا
ويجتنبون النار خوفاً من الرَّدى
أترضى صناديد الأعاريب بالأذى
فليتهم إذ لم يذودوا حميَّةً
وإن زهدوا في الأجر إذ حمي الوغى
رماحَهم والدينُ واهي الدعائم
ولا يحسبون العار ضربة لازم
ويغضي على ذلٍّ كمأة الأعاجم؟
عن الدين ضنَّوا غيرة بالمحارم
فهلا أتوه رغبةً في الغنائم؟
ويرى الشاعر قعود بعض بني قومه عن الجهاد ، فيتألم لذلك ألماً يصور معه واقعهم المتخاذل عن نصرة دينهم الذي يحاول الأعداء إضعافه ، جنباً ، وخوفاً ، وغفلة عمَّا يلحق بهم من العار في حالة الهزيمة ، ويعجب لشجعان المسلمين من عربٍ ، ومن عجمٍ ، كيف يقبلون بهذا كله ، ثم يقلب لهم أسباب الدفاع عن الدين ، وعن البيضة تقليباً منطقياً، فيه الألم الذي يعصر قلبه، والتبكيت الذي يهزُّ أحاسيسهم من الأعماق، فيطالبهم بالدفاع عن الدين أولاً، فإن لم ينهضوا له؛ فليحموا محارمهم من النِّساء، والبلدان، والعقار، وهذا أضعف الإيمان أن يهتموا بالدنيا، وعَرضها من غنائم، وأسلاب؛ إن فقدوا الثأر للدِّين ، والخروج للجهاد ، ونيل الشهادة!!. وفي نهاية القصيدة يبلغ به الألم مبلغاً أشدَّ فعلاً ، وتأثيراً ، فيكشف لهم عن مستقبل أيامهم ، وما يلاقون فيه من إذلال ، وصغارٍ في أيام أبنائهم الوارثين للخنوع؛ إن قبلوا باحتلال الأعداء لبلادهم ، ثم يهدِّدهم بعارِ تسليم النساء للأعداء؛ إن هم ظلُّوا على ما هم عليه من الخنوع ، والجبن ، والقعود عن الجهاد. ولم يزل الشاعر يستصرخهم، والحرب مستعرة؛ ليغيروا على المعتدين غارة شعواء، تلقن الفرنجة درساً قاسياً، كما تعوَّدوا في كلِّ مرَّةٍ يهاجمون فيها بلاد الإسلام:
لئن أذعنت تلك الخياشيم للبُرَى
دعوناكم والحرب تدعو ملحةً
تراقب فينا غارةً عربية
فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه
فلا عطست إلا بأجدع راغم
إلينا بألحاظ النُّسور القشاعم
تطيل عليها الروم عَضَّ الأباهم
رمينا إلى أعدائنا بالجرائم
وقال شاعر آخر في الغزو الصليبي لبيت المقدس:
أحلَّ الكُفر بالإسلام ضيماً
فحقٌ ضائعٌ وحمىً مباحٌ
وكم من مسلمٍ أمسى سليباً
وكم من مسجدٍ جعلوه دَيْراً
يطول عليه للدِّين النحيبُ
وسيفٌ قاطعٌ ودمٌ صبيب
ومسلمةٍ لها حرمٌ سليبُ
على محرابه نُصِبَ الصَّليبُ
دم الخنزير فيه لهم خَلوقٌ
أمورٌ لو تأمَّلهُنَّ طِفْلٌ
أَتُسبى المسلماتُ بكل ثغرٍ
أما لله والإسلام حقٌّ
قفل لذوي البصائر حيث كانوا
وتحريق المصاحف فيه طيبُ
لطفَّل في عوارضه المشيبُ؟!
وعيش المسلمين إذاً يطيب؟!
يدافع عنه شبان وشيب؟!
أجيبوا الله ويحكم أجيبوا !
الشاعر ابن الخياط: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن الخياط: فقد حاول هذا الشاعر تحريك همَّة عضب الدَّولة زعيم الجيوش في دمشق ، فقال قصيدة طويلة يحثُّه على إعداد العدَّة للجهاد ، مطلعها قوله:
فدتك الصَّواهل قُبَّاً وجرداً
وذلَّت لأسيافك البيض قضباً
وشُمُّ القبائل شيباً ومرداً
ودانت أرماحك السُّمر مُلْدا
إلى أن يقول:
وإني لمهدٍ إليك القريض
إلى كم وقد زخر المشركون
وقد جاشَ من أرض إفرنجه
أنوماً على مثل هدِّ الصَّفاة
وكيف تنامون عن أعينٍ
بنو الشرك لا يُنكرون الفساد
ولا يردعون عن القتل نفساً
فكم من فتاةٍ بهم أصبحت
وأمِّ عواتق ما إن عرفن
تكاد عليهنَّ مِنْ خيفةٍ
يُطوى على النُّصح والنُّصحُ يُهدى
بسيلٍ يُهال له السَّيل سدَّا
جيوشٌ كمثل جبالٍ تردَّا
وهزلاً وقد أصبح الأمر جِدَّا
وَتَرْتُمْ فأسْهَرْتُمُوُهنَّ حِقْدا
ولا يعرفون مع الجور قصدا
ولا يتركون من الفتك جُهدا
تدقُّ من الخوف نحراً وخدَّا
حَرَّاً ولا ذُقن في اللَّيل بردا
تذوب وتتلف حُزنا وَوَجْدا
وبعد أن وصف الشاعر حال المشركين ، وقسوتهم ، وحال المسلمين معهم بدأ يحرض عضب الدولة على الجهاد ، فقال:
فحاموا على دينكم والحريم
وسُدُّوا الثغور بطعن النُّحور
فقد أينعت أرؤس المشركين
فلا بدَّ من حدِّهم أن يُفلَّ
محاماة من لا يرى الموت فقدا
فمن حقِّ ثغرٍ بكم أن يُسَدَّا
فلا تغفلوها قِطافاً وحصدا
ولا بدَّ من رُكنهم أن يُهَدَّا
وكانت لجهود العلماء ، والفقهاء ، والقضاة ، والأدباء ، والشعراء أثر في تقوية حركة المقاومة المسلَّحة ، والتي قادها أمراء السلاجقة ، والتي سيأتي الحديث عنها بإذن الله في الحلقات القادمة.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf