التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (41)
" احترام المعارضة النَّزيهة في سيرة النبي ﷺ "
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
إنَّ صلح الحديبية سمَّاه الله فتحاً؛ لأنَّ الفتح في اللُّغة هو فتح المغلق، والصُّلح الَّذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً مغلقاً ففتحه الله، والصُّلح كذلك يفتح القلوب المغلقة نحو الطَّرف الآخر.
لقد كانت الصُّورة الظَّاهرة في شروط الحديبية فيها ضيمٌ للمسلمين، وهي في باطنها عزٌّ، وفتحٌ، ونصرٌ، حيث كان رسول الله (ﷺ) ينظر إلى ما وراء المعاهدة من الفتح العظيم من وراء سترٍ رقيقٍ، وكان يعطي المشركين كلَّ ما سألوه من الشُّروط الَّتي لم يحتملها أكثر أصحابه، ورؤوسهم، وهو (ﷺ) يعلم ما في ضمن هذا المكروه من محبوبٍ (الديك، 1997، ص 272).
بعد الاتفاق على معاهدة الصُّلح، وقبل تسجيل بنودها ظهرت بين المسلمين معارضةٌ شديدةٌ، وقويَّةٌ لهذه الاتفاقيَّة، وخاصَّةً في البندين اللَّذين يلتزم النَّبيُّ (ﷺ) بموجبهما بردِّ من جاءه من المسلمين لاجئاً، ولا تلتزم قريشٌ بردِّ مَنْ جاءها من المسلمين مرتدَّاً، والبند الَّذي يقضي بأن يعود المسلمون من الحديبية إلى المدينة دون أن يدخلوا مكَّة ذلك العام، وقد كان أشدَّ النَّاس معارضة لهذه الاتفاقيَّة، وانتقاداً لها عمر بن الخطَّاب، وأُسيد بن حضير سيِّد الأوس، وسعد بن عُبادة سيِّد الخزرج.
وقد ذكر المؤرِّخون: أنَّ عمر بن الخطَّاب أتى رسول الله (ﷺ) مُعلناً معارضته لهذه الاتفاقيَّة، وقال لرسول الله (ﷺ): ألست برسول الله؟ قال: «بلى!» قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: «بلى!» قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى!» قال: فعلام نُعطى الدَّنيَّة في ديننا؟! قال: «إنِّي رسولُ الله، ولستُ أعصيه» (الشامي، 1992، ص 333).
وفي روايةٍ: «أنا عبد الله، ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يُضيِّعني» (الطبري، د.ت، ص 2/634)، قلت: أوليس كنت تحدِّثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: «بلى! فأخبرتك أنا نأتيه العام؟» قلت: لا. قال: «فإنَّك آتيه، ومطوِّفٌ به». قال عمر: فأتيت أبا بكرٍ، فقلت له: يا أبا بكر! أليس برسول الله؟ قال: بلى! قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى! قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى! قلت: فعلام نُعطى الدَّنيَّة في ديننا؟ فقال أبو بكر - ناصحاً الفاروق بأن يترك الاحتجاج والمعارضة -: الزم غرزه - أي: أمره -، فإنِّي أشهد أنَّه رسول الله، وأنَّ الحقَّ ما أمر به، ولن يخالف أمر الله، ولن يضيِّعه الله. [سبق تخريجه](ابن هشام، د.ت، ص 3/346).
وبعد حادثة أبي جندل المؤلمة المؤثِّرة عاد الصَّحابة إلى تجديد المعارضة للصُّلح، وذهبت مجموعة منهم إلى رسول الله (ﷺ) بينهم عمر بن الخطاب لمراجعته، وإعلان معارضتهم، إلا أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) بما أعطاه الله من صبرٍ، وحكمةٍ، وحلمٍ، وقوَّة حجَّةٍ استطاع أن يقنع المعارضين بوجاهة الصُّلح، وأنَّه في صالح المسلمين، وأنَّه نصرٌ لهم (باشميل، 1973، ص 270)، وأنَّ الله سيجعل للمستضعفين من أمثال أبي جندل فرجاً، ومخرجاً، وقد تحقَّق ما أخبر به (ﷺ).
وبهذا يتبيَّن: أنَّ الرَّسول (ﷺ) وضع قاعدة احترام المعارضة النَّزيهة، حيث قرَّر ذلك بقوله، وفعله، وهو - والله أعلم - إنَّما أراد بهذا الفعل إرشاد القادة من بعده إلى احترام المعارضة النَّزيهة؛ الَّتي تصدر من أتباعهم، وذلك بتشجيع الأتباع على إبداء الآراء السَّليمة؛ الَّتي تخدم المصلحة العامَّة (الرشيد، 1990، ص 495).
وهذا الهدي النَّبويُّ الكريم بيَّن: أنَّ حرِّيَّة الرأي مكفولةٌ في المجتمع الإسلاميِّ، وأنَّ للفرد في المجتمع المسلم الحرِّيَّة في التَّعبير عن رأيه، ولو كان هذا الرَّأي نقداً لموقف حاكم من الحكَّام، أو خليفةٍ من الخلفاء، فمن حقِّ الفرد المسلم أن يبيِّن وجهة نظره في جوٍّ من الأمن، والأمان دون إرهابٍ، أو تسلُّط يخنق حرِّية الكلمة، والفكر.ونفهم من معارضة عمر لرسول الله (ﷺ): أنَّ المعارضة لرئيس الدَّولة في رأيٍ من الآراء، وموقف من المواقف ليست جريمةً تستوجب العقاب، ويُغَيَّب صاحبها في غياهب السُّجون.
المراجع:
1. ابن هشام، أبو محمد بن عبدالملك، (د.ت)، السِّيرة النَّبويَّة، دار الفكر، بدون تاريخ.
2. باشميل، محمد أحمد، (1973)، صلح الحديبية، دار الفكر، الطَّبعة الثَّالثة، 1973م - 1393هـ.
3. الديك، محمد، (1997)، المعاهدات في الشَّريعة الإسلاميَّة والقانون الدَّولي، الطَّبعة الثانية، 1418هـ 1997 م، دار الفرقان للنَّشر والتَّوزيع.
4. الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، (د.ت)، تاريخ الطَّبري، تحقيق محمَّد أبو الفضل إبراهيم، دار سويدان - بيروت.
5. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 305-307.
6. الرشيد، عبدالله محمد، (1990)، القيادة العسكريَّة في عهد الرَّسول (ﷺ)، دار القلم، الطَّبعة الأولى، 1410 هـ 1990 م.
7. الشامي، صالح أحمد، (1992)، مِنْ معين السِّيرة، المكتب الإسلامي، الطَّبعة الثانية، 1413 هـ 1992م.