التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (40)
"أدب الخلاف بين الصحابة"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
اختلف الصَّحابة في فهم كلام رسول الله(ﷺ) : «أَلاَ لاَ يُصَلِّيَنَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة» [سبق تخريجه] (محمد، 1994، ص 2/116) فبعضهم فهم منه المراد الاستعجال، فصَّلى العصر لـمَّا دخل وقتُه، وبعضهم أخذ بالظَّاهر، فلم يصلِّ إلا في بني قريظة؛ ولم يعنِّف النَّبيُّ (ﷺ) أحداً منهم، أو عاتبه، ففي ذلك دلالةٌ مهمَّةٌ على أصلٍ من الأصول الشَّرعية الكبرى، وهو تقدير مبدأ الخلاف في مسائل الفروع، واعتبار كلٍّ من المتخالفين، معذوراً، ومثاباً، كما أنَّ فيه تقريراً لمبدأ الاجتهاد في استنباط الأحكام الشَّرعيَّة، وفيه ما يدلُّ على أنَّ استئصال الخلاف في مسائل الفروع الَّتي تنبع من دلالاتٍ ظنِّيَّةٍ أمرٌ لا يمكن أن يُتصوَّر أو يتم.
إنَّ السَّعي في محاولة القضاء على الخلاف في مسائل الفروع معاندةٌ للحكمة الرَّبَّانيَّة، والتدبير الإلهي في تشريعه، عدا أنَّه ضربٌ من العبث الباطل؛ إذ كيف تضمن انتزاع الخلاف في مسألة ما دام دليلها ظنِّيّاً محتملاً؟ ولو أمكن ذلك أن يتمَّ في عصرنا، لكان أولى العصور به عصر رسول الله (ﷺ)، ولكان أولى النَّاس بألا يختلفوا هم أصحابُه، فما بالهم اختلفوا مع ذلك كما رأيت (البوطي، 1991، ص 226) في الحديث السابق من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث نبوي أو آية من كتاب الله، كما لا يعاب من استنبط من النص معنى يخصصه، وفيه أيضاً أن المختلفين في الفروع من المجتهدين، لا إثم على المخطئ؛ فقد قال(ﷺ) : «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجرٌ» [البخاري (7352)، ومسلم (1716)].
وحاصل ما وقع: أنَّ بعض الصَّحابة حملوا النَّهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت - وقت الصَّلاة - توجيهاً لهذا النَّهي الخاصِّ على النَّهي العامِّ عن تأخير الصَّلاة عن وقتها (زيدا، 1997، ص 2/286).
وقد علَّق الحافظ ابن حجر على هذه القصَّة، فقال: ثمَّ الاستدلال بهذه القصَّة على أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ على الإطلاق ليس بواضحٍ، وإنَّما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه، واجتهد، فيستفاد منه عدم تأثيمه، وحاصل ما وقع في القصَّة: أنَّ بعض الصَّحابة حملوا النَّصَّ على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحاً للنَّهي الثَّاني على النَّهي الأوَّل، وهو ترك تأخير الصَّلاة عن وقتها، واستدلُّوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب بنظير ما وقع في تلك الأيام بالخندق، والبعض الآخر حملوا النَّهي على غير الحقيقة، وأنَّه كنايةٌ على الحثِّ، والاستعجال، والإسراع إلى بني قريظة، وقد استدلَّ به الجمهور على عدم تأثيمِ من اجتهد، لأنَّه (ﷺ) لم يعنِّف أحداً من الطَّائفتين، فلو كان هناك إثمٌ؛ لعنَّف مَنْ أَثِمَ (اختصاراً من فتح الباري "7/473"، في شرح الحديث رقم: 4119).
المراجع:
1. البوطي، محمد سعيد رمضان، (1991)، فقه السيرة،الطَّبعة الحادية عشرة، 1991 م، دار الفكر، دمشق - سورية.
2. زيدان، عبدالكريم، (1997)، المستفاد من قصص القرآن للدَّعوة والدُّعاة، مؤسَّسة الرِّسالة، الطَّبعة الأولى 1418 هـ 1997 م.
3. محمد، مصطفى مسلم، (1994)، معالم قرآنيَّة في الصِّراع مع اليهود، دار المسلم - الرِّياض، الطبعة الأولى، 1415 هـ 1994 م.
4. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 209-213.