التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (42)
"أبو بصير في المدينة وقيادته لحرب العصابات"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
في أعقاب صلح الحديبية مباشرةً استطاع أبو بصير عُتْبَةُ بن أُسَيْدٍ أن يفرَّ بدينه من سجون الشِّرك في مكَّة المكرَّمة, وأن يلتحق برسول الله (ﷺ) في المدينة, فبعثت قريش في إثره اثنين من رجالها إلى رسول الله (ﷺ) ليرجعا به, تنفيذاً لشروط المعاهدة, فقال رسول الله (ﷺ) لابي بصير: «يا أبا بصير! إنَّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت, ولا يصلح لنا في ديننا الغدر, وإنَّ الله جاعلٌ لك, ولمن معك من المستضعفين فرجاً, ومخرجاً, فانطلق إلى قومك» فقال أبو بصير: يا رسول الله! أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ قال: «يا أبا بصير, انطلق؛ فإن الله سيجعل لك, ولمن معك من المستضعفين فرجاً, ومخرجاً».
فانطلق معهما, وقد شقَّ ذلك على المسلمين وهم ينظرون بحزنٍ إلى أخيهم في العقيدة, وهو يعود إلى سجنه بمكَّة بعد أن استطاع أن يفلت من ظلم قريشٍ، ولكنَّ رسول الله(ﷺ) كان يهتمُّ بالوفاء بالعهود، والمواثيق، ولم يكن عنده مجرَّد نظريةٍ مكتوبةٍ على الورق، ولكنَّه كان سلوكاً عملياً في حياته، وفي علاقته الدَّولية، فقد أوصى الله - سبحانه وتعالى - بالوفاء بالعهود، وحذَّر من نقض الأيمان بعد توكيدها في كثير من الآيات القرآنيَّة، قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 91].
وقال جلَّ وعلا: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾ [الإسراء: 34].
وبهذا يكون الوفاء بالعهد عند المسلمين قاعدةً أصوليَّة من قواعد الدِّين الإسلاميِّ، الَّتي يجب على كلِّ مسلمٍ أن يلتزم بها.
لقد التزم رسول الله (ﷺ) بعهده مع قريش، وسلَّم أبا بصير إليهما، وانطلق معهما، فلـمَّا كان بذي الحُليفة؛ قال لأحد صاحبيه: أصارمٌ سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ فقال: نعم. قال: أنظر إليه؟ قال: انظر؛ إن شئت، فاستلَّه أبو بصير، ثم علاه به حتَّى قتله، ففرَّ الآخر إلى رسول الله (ﷺ) فقال: قتل صاحبُكم صاحبي، فما لبث أبو بصير أن حضر، متوشحاً السَّيف، وقال: يا رسول الله! وفَت ذمَّتك، وأدَّى الله عنك، أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أُفتن فيه، أو يُعْبَث بي. فقال النَّبيُّ (ﷺ): «ويل أمِّه! مسْعَرُ حربٍ. لو كان له أحدٌ!».
فلـمَّا سمع ذلك عرف: أنَّه سيردُّه إليهم، فخرج حتَّى أتى سيف البحر، وقد فهم المستضعفون بمكَّة من عبارة الرَّسول (ﷺ) أنَّ أبا بصير بحاجةٍ إلى الرِّجال، فأخذوا يفرُّون من مكة إلى أبي بصير في سيف البحر، فلحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرٍو، وغيره، حتَّى اجتمع عند أبي بصير عصبةٌ قويَّةٌ، فما يسمعون بعيرٍ لقريشٍ خرجت إلى الشَّام إلا اعترضوا طريقها، وقتلوا مَنْ فيها، وأخذوا الأموال التي كانوا يتَّجرون بها، فأرسل المشركون إلى النَّبيِّ (ﷺ) يناشدونه الله، والرَّحم لمَا أرسل إلى أبي بصيرٍ، ومن معه، ومن أتاه منهم، فهو آمن، وتخلَّوا في ذلك عن أقسى شروطهم الَّتي صبُّوا فيها كؤوس كبريائهم، فذلَّت قريشٌ من حيث طلبت العزَّ (عرجون، 1995، ص 4/281). فأرسل إليهم النَّبيُّ (ﷺ) وهم بناحية العيص، فقدموا عليه، وكانوا قريباً من السِّتِّين، أو السَّبعين (العمري، 1992، ص 2/451)، فأوى النَّبيُّ (ﷺ) تلك العصبة المؤمنة الَّتي أقضَّت مضاجع قريشٍ، وأرغمتها على إسقاط شرطها التَّعسُّفيَّ، فزادت بهم قوَّة المسلمين، وقويت بهم شوكتُهم، واشتدَّ بأسهم، غير أنَّ أبا بصيرٍ، رأس تلك العصابة، ومؤسِّسها لم يقدَّر له أن يكون معها، فقد وافاه كتاب النَّبيِّ(ﷺ) بالعودة إلى المدينة وهو على فراش الموت، فلفظ أنفاسه حيث كان في الثَّغر، وهواه في قلب المجتمع النَّبويِّ في المدينة (فيض الله، 1996، ص 296).
إنَّ قصَّة أبي جندلٍ، وأبي بصيرٍ، وما احتملاه في سبيل العقيدة، وما أبدياه من الثَّبات، والإخلاص، والعزيمة، والجهاد؛ حتَّى مرَّغوا رؤوس المشركين بالتُّراب، وجعلوهم يتوسَّلون للمسلمين لترك ما اشترطوه عليهم في الحديبية، هذه القصَّة نموذجٌ يُقتدى به في الثَّبات على العقيدة، وبذل الجهد في نصرتها، وفيها ما يشير إلى مبدأ: «قد يسع الفرد ما لا يسع الجماعة»، فقد ألحق أبو بصير، وجماعتُه الضَّرر بالمشركين في وقتٍ كانت فيه دولة الإسلام لا تستطيع ذلك وفاءً بالصُّلح، لكنَّ أبا بصير، وأصحابَه خارجُ سلطة الدَّولة - ولو في ظاهر الحال - ولم يكن ما قام به أبو بصير، والمستضعفون بمكَّة مجرَّد اجتهادٍ فرديٍّ لم يحظَ بإقرار الرَّسول (ﷺ) حيث لم يأمر أبا بصير بالكفِّ عن قوافل المشركين ابتداءً، أو بالعودة إلى مكَّة، إنَّ ذلك لم يحدث، فكان إقراراً له؛ إذ كان موقف أبي بصير، وأصحابه فـي غاية الحكمة، حيث لم يستكينوا لطغاة مكَّة يفتنونهم عن دينهم، ويمنعونهم من اللَّحاق بالمدينة، فاختاروا موقفاً فيه خلاصُهم، وإسناد دولتهم بأعمالٍ تُضعِف اقتصاد مكَّة، وتزعزع إحساسها بالأمن في وقت الصُّلح، بل يمكن القول بأن اتِّخاذ هذا الموقف كان بإشارةٍ، وتشجيعٍ من النَّبيِّ (ﷺ) حين وصف أبا بصير بأنَّه: «مِسْعَرُ حربٍ. لو كان معه أحدٌ!» (العمري، 1992، ص 2/452).
إنَّ المتأمِّل في هذه الأحداث يرى رعاية الله الَّتي أولاها لهؤلاء الصَّحابة الكرام، الذين توافرت فيهم صفات أهلتهم لينالوا تلك الرِّعاية والعناية من الله، ومتى توافرت في شخصٍ، أو أمَّـةٍ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ فإنَّ رعاية الله سوف تنزل عليهم؛ لأنَّ الله قد وعد بذلك، ووعده الحقُّ (الحكمي، 1991، ص 320).
المراجع:
1. الحكمي، حافظ، (1991)، مرويات غزوة الحديبية، دار ابن القيِّم، الطبعة الأولى 1411 هـ 1991م.
2. العمري، أكرم، (1992)، السِّيرة النَّبويَّة الصَّحيحة، الطَّبعة الأولى، 1412هـ 1992م، مكتبة المعارف والحِكَم بالمدينة المنوَّرة.
3. عرجون، محمد صادق، (1995)، محمَّد رسول الله، دار القلم، الطَّبعة الثانية، 1415 هـ 1995 م.
4. فيض الله، محمد فوزي، (1996)، صورٌ وعبرٌ من الجهاد النَّبويِّ في المدينة، دار القلم - دمشق، الدَّار الشَّاميَّة - بيروت، الطَّبعة الأولى، 1416هـ 1996م.
5. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 313-316.