التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (38)
"اهتمام النبي (ﷺ) بالجبهة الدَّاخلية قبل قدوم جيش الأحزاب"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
لـمَّا علم النَّبيُّ (ﷺ) بقدوم جيش الأحزاب، وأراد الخروج إلى الخندق أمر بوضع ذراري المسلمين ونسائهم وصبيانهم في حصن بني حارثة؛ حتَّى يكونوا في مأمنٍ من خطر الأعداء، وقد فعل ذلك (ﷺ)؛ لأنَّ حماية الذَّراري والنِّساء والصِّبيان لها أثرٌ فعَّالٌ على معنويات المقاتلين؛ لأنَّ الجندي إذا اطمأنَّ على زوجه وأبنائه يكون مرتاح الضَّمير، هادئ الأعصاب، فلا يشغل تفكيره أمرٌ من أمور الحياة، يُسخِّر كل إمكاناته وقدراته العقليَّة والجسديَّة للإبداع في القتال، أمَّا إذا كان الأمر بعكس ذلك؛ فإنَّ أمر الجندي يضطرب، ومعنوياتُه تضعُف ويستولي عليه القلق، ممَّا يكون له أثر في تراجعه عن القتال وبذلك تنزل الكارثة بالجميع.
ومن الأمور الَّتي أسهمت في تقوية وتماسك الجبهة الدَّاخلية مشاركةُ النبي (ﷺ) جنده أعباء العمل، فقد شارك الرَّسول (ﷺ) الصَّحابة في العمل المضني، فأخذ يعمل بيده الشَّريفة في حفر الخندق، فعن ابن إسحاق، قال: سمعت البراء يحدِّث قال: لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله (ﷺ)؛ رأيتُه ينقل من تراب الخندق حتَّى وارى عني التُّرابُ جِلدَة بطنِه، وكان كثير الشَّعر. [البخاري (4106)، ومسلم (1803)]. فعمل رسول الله (ﷺ) مع الصَّحابة بهمَّةٍ عاليةٍ لا تعرف الكلل، فأعطى القدوة الحسنة لأصحابه حتَّى بذلوا ما في وسعهم لإنجاز حفر ذلك الخندق.
وكان(ﷺ) يشارك الصَّحابة رضي الله عنهم في آلامهم وآمالهم، بل كان يستأثر بالمصاعب الجمَّة دونهم، ففي غزوة الأحزاب نجد: أنَّه (ﷺ) كان يعاني ألم الجوع كغيره، بل أشدَّ، حيث وصل به الأمر إلى أن يربط حجراً على بطنه الشَّريف من شدَّة الجوع.
وقد عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رفع معنويات الجنود وإدخال السُّرور عليهم، فقد اقترن حفر الخندق بصعوباتٍ جمَّة، فقد كان الجو بارداً والرِّيح شديدةً، والحالة المعيشية صعبةً، بالإضافة إلى الخوف من قدوم العدو الَّذي يتوقَّعونه في كلِّ لحظةٍ، ويضاف إلى ذلك العمل المضني حيث كان الصَّحابة يحفرون بأيديهم وينقلون التراب على ظهورهم، ولاشكَّ في أن هذا الظرف - بطبيعة الحال - يحتاج إلى قدرٍ كبير من الحزم والجدِّ، ولكنَّ النَّبيَّ (ﷺ) لم ينسَ في هذا الظَّرف: أنَّ هؤلاء الجند إنَّما هم بشرٌ كغيرهم، لهم نفوسٌ بحاجةٍ إلى الرَّاحة من عناء العمل، كما أنَّها بحاجةٍ إلى مَنْ يدخل السُّرور عليها؛ حتَّى تَنسى تلك الآلام الَّتي تعانيها فوق معاناة العمل الرَّئيسي، ولهذا نجد: أنَّ النَّبيِّ (ﷺ) كان يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل التُّراب:
اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ ما اهْتَدَيْنا
ولا تَصَدَّقْنَا ولا صَلَّيْنَا
فأَنْزِلَنْ سَكِيْنَةً عَلَيْنَا
وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا
إنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
وإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
ثُمَّ يَمدُّ صوته بآخرها. [البخاري (4106)].
وعن أنسٍ رضي الله عنه: أنَّ أصحاب محمَّدٍ (ﷺ) كانوا يقولون يوم الخندق:
نَحْنُ الَّذِيْنَ بَايَعُوا مُحَمَّداً
عَلَى الإِسْلامِ مَا بَقِيْنَا أَبَداً
أو قال على الجهاد، والنَّبيُّ (ﷺ) يقول:
اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الآخره
فاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ والمُهَاجِره
[البخاري (2834)، ومسلم (1805/130)].
لقد كان لهذا التَّبسُّط والمرح في ذلك الوقت أثرُه في التَّخفيف عن الصَّحابة ممَّا يعانونه نتيجةً للظُّروف الصَّعبة الَّتي يعيشونها، وكما كان له أثرهُ في بعث الهِمَّة والنَّشاط، بإنجاز العمل الَّذي كُلِّفوا بإتمامه، قبل وصول عدوِّهم.
ومن مظاهر الإعداد تقدير ظروف الجند، والإذن بالانصراف عند الحاجة، فقد كان الصَّحابة رضي الله عنهم على قدرٍ كبير من الأدب مع النَّبيِّ (ﷺ)، فكانوا يستأذنونه في الانصراف إذا عرضت لهم ضرورةٌ، فيذهبون لقضاء حوائجهم، ثمَّ يرجعون إلى ما كانوا فيه من العمل، رغبةً في الخير واحتساباً له، فأنزل الله فيهم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 62].
ومن مظاهر إعداد الجبهة الداخلية أيضاً تقسيم الصَّحابة إلى دورياتٍ للحراسة: قسم النَّبيُّ (ﷺ) أصحابه إلى مجموعاتٍ للحراسة ومقاومة كلِّ مَنْ يريد أن يخترق الخندق، وقام المسلمون بواجبهم في حراسة الخندق، وحراسة نبيِّهم (ﷺ)، واستطاعوا أن يصدُّوا كلَّ هجومٍ حاول المشركون شنَّه، وكانوا على أهبة الاستعداد جنوداً وقيادةً، حتَّى إنَّهم استمرُّوا ذات يوم من السَّحَر إلى جوف اللَّيل في اليوم الثَّاني، ويفوت المسلمين الصَّلواتُ الأربع، ويقضونها لعجزهم عن التوقُّف لحظةً واحدةً أثناء الاشتباك المباشر للقتال، واستطاع عليُّ بن أبي طالب مع مجموعة من الصَّحابة أن يصدُّوا محاولة عكرمة بن أبي جهلٍ، بل تصدَّى عليٌّ لبطل قريش عمرو بن عبد ودِّ، وقتله، وكانت هناك مجموعةٌ من الأنصار تقوم بحراسة النَّبيِّ (ﷺ) في كلِّ ليلةٍ على رأسهم عبَّاد بن بشرٍ رضي الله عنه، فالنَّبيُّ (ﷺ) هو القائد الأعلى وهو المشرف المباشر على إدارة المعركة، فهو الَّذي يرسم الخطط، ويراقب تنفيذها، فهو الَّذي:
أ - أمر بحفر الخندق، بعد أن تمَّت المشاورة في ذلك، فاختار مكاناً مناسباً لذلك، وهي السُّهول الواقعة شمال المدينة؛ إذ كانت هي الجهة الوحيدة المكشوفة أمام الأعداء.
ب - قسَّم أعمال حفر الخندق بين الصَّحابة، كلَّ أربعين ذراعاً لعشرة من الصَّحابة، ووكَّل بكلِّ جانبٍ جماعةً يحفرون فيه.
ج - سيطر على العمل، فلا يستطيع أحدٌ ترك عمله إلا بإذنٍ منه (ﷺ).
د – قسم (ﷺ) واجبات احتلال المواضع بنفسه بحيث تستمرُّ الحراسة على كلِّ شبرٍ من الخندق ليلاً، ونهاراً، ثمَّ إنَّه (ﷺ) كان يقوم بمهمَّة الإشراف العامِّ على الجند بتشجيعهم، ورفع معنوياتهم.
هـ استطاع (ﷺ) - لما يتمتَّع به من حنكةٍ، وبراعةٍ سياسيَّةٍ مستمدَّةٍ من شخصيته النَّبويَّة - أن يمسك بزمام الأمور وينقذ المؤمنين من الموقف الحرج الَّذي حدث لهم عندما وصلت الأحزاب إلى المدينة، وأصبح الخطر يهدِّد المدينة، وما حولها، فقد توحَّدت قيادة المسلمين تحت زعامته(ﷺ) ، فكان ذلك من أسباب كسب المعركة، والفوز بها.
المراجع:
1. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 209-213.
2. القيادة العسكريَّة في عهد الرَّسول (ﷺ)، دار القلم، الطَّبعة الأولى، 1410 هـ 1990 م، ص 11-482.
3. غزوة الأحزاب، للدُّكتور محمد عبد القادر أبو فارس، ص 98-116-117.