التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (46)
"إحباط محاولة تجسُّس حاطبٍ لصالح قريش"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
عندما أكمل النَّبيُّ (ﷺ) استعداده للسير إلى فتح مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهل مكَّة يخبرهم فيه نبأ تحرك النَّبيِّ (ﷺ) إليهم، ولكنّ الله - سبحانه وتعالى - أطلع نبيَّه (ﷺ) عن طريق الوحي على هذه الرِّسالة، فقضى (ﷺ) على هذه المحاولة وهي في مهدها، فأرسل النَّبيُّ (ﷺ) عليّاً والزُّبير والمقداد، فأمسكوا بالمرأة في روضة خاخٍ على بعد اثني عشر ميلاً من المدينة، وهدَّدوها أن يفتِّشوها إن لم تُخرِج الكتاب؛ فسلَّمته لهم، ثمَّ استدعى حاطباً رضي الله عنه للتَّحقيق، فقال: يا رسول الله! لا تعجل عليَّ، إنِّي كنت امرأً مُلصَقاً في قريشٍ - يقول: كنت حليفاً - ولم أكن من أنفُسِها، وكان مَنْ معك من المهاجرين مَنْ لهم قراباتٌ يحمون بها أهليهم، وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النَّسب فيهم أن أتَّخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله (ﷺ): «أما إنَّه قد صدقكم».
فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! دعني أضربْ عنق هذا المنافق! فقال(ﷺ) : «إنَّه قد شهد بدراً، وما يدريك لعلَّ الله اطَّلع على مَنْ شهد بدراً، فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم». [أحمد (1/79 - 80)، والبخاري (3983)، ومسلم (2494)].
فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ [الممتحنة: 1]. إنَّ الآية السَّابقة رسمت منهجاً للمسلمين في تعاملهم مع الكافرين، فمعنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ قال القرطبيُّ: السُّورة أصلٌ في النَّهي عن موالاة الكفار، والمراد بهم: المشركون، والكفَّار الذين هم محاربون لله، ولرسوله، وللمؤمنين الَّذين شرع الله عداوتهم، ومصارمتهم، ونهى أن يُـتَّخذوا أولياء وأصدقاء (ابن كثير، د.ت، ص 4/346).
يقول الدكتور محمَّد بن بكر آل عابد: هذه الآية الكريمة نجدها تمهيداً بين يدي فتح مكَّة حيث حثَّ الله المسلمين على عدم موالاة الكفار، حتى لا يتأثَّر المهاجرون بروابط الرَّحم والقربى والمصلحة المادِّيَّة التي كانت تربط كثيراً منهم بأهل مكَّة.
ويقول الأستاذ سيِّد قطب: على الرَّغم من كلِّ ما ذاق المهاجرون من العنت، والأذى من قريش؛ فقد ظلَّت بعض النُّفوس تودُّ لو وقعت بينهم وبين أهل مكَّة المحاسنة، والمودَّة، وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية الَّتي تكلِّفهم قتال أهليهم، وذوي قرابتهم، وتقطع ما بينهم، وبينهم من صلاتٍ، وكأنَّ الله يريد استقصاء هذه النُّفوس، واستخلاصها من كلِّ هذه الوشائج، وتجريدها لدينه، وعقيدته، ومنهجه... فكان يأخذهم يوماً بعد يوم بعلاجه النَّاجع البالغ؛ بالأحداث، وبالتَّعقيب على الأحداث؛ ليكون العلاج على مسرح الأحداث، وليكون الطَّرْقُ؛ والحديدُ ساخنٌ (سيد قطب، 1980، ص 6/358).
إنَّ ما قام به حاطبٌ أمرٌ عظيـمٌ، ولذلك نزل القرآن الكريم يوجِّه المجتمع المسلم نحو ما يجب عليهم فعلُه نحو أعداء دينهم، كما أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) عامل حاطباً معاملـةً رحيمةً تـدلُّ على حرصـه الشَّديد على الوفاء لأصحابـه، وإقالـة عثرات ذوي السَّوابق الحسنة منهم، لقد جعل (ﷺ) من ماضي حاطب المجيد سبباً في العفو عنه.
وهذا منهجٌ نبويٌّ حكيمٌ، فلم ينظر النَّبيُّ (ﷺ) إلى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب، وإن كانت كبيرةً، وإنَّما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله تعالى، وإعزاز دينه، فوجد: أنَّه قد شهد بدراً، وفي هذا توجيهٌ للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب الأخطاء نظرةً متكاملـةً، وذلك بأن ينظروا فيما قدَّموه لأمَّتهم من أعمالٍ صالحةٍ في مجال الدَّعوة، والجهاد، والعلم، والتَّربية، فإنَّ الَّذي يساهم في إسقاط فروض الكفاية عن الأمَّـة يستحقُّ التَّقديـر، والاحترام، وإن بدرت منـه بعـض الأخطاء، هذا فيما إذا كان ما صدر من هؤلاء خطـأً محضاً، وزلَّـة قدمٍ، فكيف إذا كان ما صدر منهم رأياً علميّاً ناتجاً عن الاجتهاد؛ وهم أهلٌ لذلك؟!
إنَّ بعض طلاَّب العلم في عصرنا هذا يتسرَّعون في نقد العلماء، والدُّعاة بسبب آراء اجتهاديَّةٍ يرى بعض العلماء أنَّهم أخطؤوا فيها، وقد يصل النَّقد إلى حدِّ السُّخريَّة، والاستهزاء بهم، وترى هؤلاء الطُّلاب يُجسِّمون أخطاء هؤلاء الكبار، ويبرزونها بشكلٍ يوحي للسَّامعين، والقرَّاء: أنَّ أولئك الَّذين تعرَّض إنتاجهم للنَّقد ليس لهم أيُّ رصيدٍ في خدمة الإسلام والمسلمين، والمفترض في هذا المجال أن تُذكر حسنات هؤلاء أوَّلاً، ويعرَّف المسلمون بجهادهم، وبلائهم في الإسلام، وجهودهم في مجال العلم، والدَّعوة، ثمَّ تُذكر الأمور، الَّتي يراها المنتقدون أخطاء، وما يرونه من الصَّواب في ذلك من لزوم الأدب في النَّقد العلميِّ، والبعد عن أسلوب السُّخرية، والتَّنقيص، هذا شيءٌ مما يرشدنا له أسلوب النَّبيِّ (ﷺ) في مواجهة هذا الخطأ الكبير الَّذي ارتكبه حاطبُ بن أبي بلتعة رضي الله عنه، إنَّ تاريخ حاطب الكبير في الجهاد في سبيل الله شفع له عند رسول الله (ﷺ)، ولذلك لم يتعرَّض للإدانة، أو للعقوبة، بل كان مانعاً له ممَّا هو أقلُّ من ذلك، حيث لم يُسمَع من مسلمٍ كلمةٌ واحدةٌ في نقده، والإساءة إليه بعد قول النَّبيِّ (ﷺ): «ولا تقولوا له إلا خيراً» (الحميدي، 1997، ص 7/176).
المراجع:
1. ابن كثير، (د.ت)، تفسير القرآن العظيم، دار الفكر، ودار القلم، بيروت - لبنان، الطَّبعة الثانية.
2. الحميدي، عبدالعزيز، (1997)، التَّاريخ الإسلاميُّ - مواقف وعبرٌ، دار الدَّعوة - الإسكندريَّة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1997 م.
3. سيد قطب، (1980)، في ظلال القرآن، دار الشُّروق، الطَّبعة التَّاسعة، 1400 هـ 1980 م.
4. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 388-400.