التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (48)
"الغنائم وسيلةٌ لتأليف القلوب"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
رأى (ﷺ) بعد غزوة حنين وحصار الطائف، أن يتألَّف الطُّلقاء والأعراب بالغنائم تأليفاً لقلوبهم؛ لحداثة عهدهم بالإسلام، فأعطى لزعماء قريش، وغطفان، وتميم عطاءً عظيماً، إذ كانت عطيَّة الواحد منهم مئةً من الإبل، ومن هؤلاء: أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أميَّة، وعيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس، ومعاوية، ويزيد ابنا أبي سفيان، وقيس بن عديٍّ (الشامي، 1992، ص 421)، وكان الهدف من هذا العطاء المجزي هو تحويل قلوبهم من حب الدُّنيا إلى حبِّ الإسلام، أو كما قال أنس بن مالك: إنْ كان الرجل ليسلمُ ما يريد إلا الدُّنيا، فما يسلمُ حتَّى يكونَ الإسلامُ أحبَّ إليه من الدُّنيا وما عليها [سبق تخريجه].
وعبَّر عن هذا صفوان بن أميَّة فقال: لقد أعطاني رسولُ الله(ﷺ) ما أعطاني، وإنَّه لأبغض النَّاس إليَّ، فما برح يعطيني حتَّى إنَّه لأحبُّ النَّاس إليَّ. [سبق تخريجه].
وقد تأثَّر حدثاء الأنصار من هذا العطاء بحكم طبيعتهم البشريَّة، وتردَّدت بينهم قالةٌ، فراعى(ﷺ) هذا الاعتراض، وعمل على إزالة التوتُّر، وبيَّن لهم الحكمة في تقسيم الغنائم، وخاطب الأنصار خطاباً إيمانيّاً، عقليّاً، عاطفيّاً، وجدانيّاً، ما يملك القارئ المسلم على مر الدُّهور، وكر العصور، وتوالي الزَّمان إلا البكاء عندما يمرُّ بهذا الحدث العظيم، فعندما دخل سعد بن عبادة على رسول الله(ﷺ) ، فقال: يا رسول الله! إن هذا الحيَّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء؛ الذي أصبت، قسمت في قومك؛ وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحيِّ من الأنصار منها شيءٌ. قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال: يا رسول الله! ما أنا إلا مِنْ قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، قال: فجاء رجالٌ من المهاجرين، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردَّهم.
فلـمَّا اجتمعوا؛ أتى سعدٌ، فقال: قد اجتمع لك هذا الحيُّ من الأنصار، فأتاهم رسول الله(ﷺ) ، فحمِد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثمَّ قال: «يا معشر الأنصار، ما قالةٌ بلغتني عنكم، وَجِدَةٌ وجدتموها في أنفسكم، ألم اتكم ضلالاً، فهداكم الله بي، وعالةً، فأغناكم الله بي، وأعداءً، فألف الله بين قلوبكم؟» قالوا: الله ورسولُه أمنُّ، وأفضل، ثمَّ قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟!» قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله! لله ولرسوله المنُّ، والفضل؟ قال: «أما والله لو شئتم؛ لقلتم، فلصدقتم، ولصُدِّقتم: أتيتنا مكذَّباً، فصدَّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فاويناك، وعائلاً فاسيناك، أوجدتم عليَّ يا معشر الأنصار! في أنفسكم في لَعَاعَةٍ من الدُّنيا تألَّفت بها قوماً؛ ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار! أن يذهب النَّاس بالشَّاء، والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمدٍ بيده! لما تنقلبون به خيرٌ ممَّا ينقلبون به، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك النَّاس شِعباً، ووادياً، وسلكت الأنصار شِعْباً، ووادياً؛ لسلكت شِعْبَ الأنصار، وواديها، الأنصارُ شِعَارٌ، والنَّاس دثار، اللَّهُمَّ! ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار».
قال: فبكى القوم حتَّى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله(ﷺ) قَسْماً وحظّاً، ثمَّ انصرف رسول الله(ﷺ) وتفرَّقوا. [أحمد (3/76 - 77)، ومجمع الزوائد (10/32)] (ابن القيم، د.ت، ص 3/474)، وفي رواية: «إنَّكم ستلقون بعدي أثرةً، فاصبروا حتَّى تلقوني على الحوض» [البخاري (4330)، ومسلم (1061)].
وممَّا يجدر الإشارة إليه في هذا المقام: أنَّ هذه المقالة لم تصدر من الأنصار كلِّهم، وإنَّما قالها حديثو السِّنِّ منهم، بدليل ما ورد في الصَّحيحين عن أنسِ بن مالك رضي الله عنه: أنَّ ناساً من الأنصار قالوا يوم حنين: أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق رسول الله (ﷺ) يعطي رجالاً من قريش المئة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله! يعطي قريشاً، ويتركُنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم؟! قال أنس بن مالك: فحُدِّث رسول الله (ﷺ) مِنْ قولهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبَّةٍ من أَدَمٍ، فلـمَّا اجتمعوا؛ جاءهم رسول الله (ﷺ) فقال: «ما حديثٌ بلغني عنكم؟» فقال له فقهاء الأنصار: أمَّا ذوو رأينا يا رسول الله! فلم يقولوا شيئاً، وأمَّا أُناسٌ منَّا حديثةٌ أسنانُهم؛ قالوا: يغفر الله لرسول الله! يعطي قريشاً، ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله(ﷺ) : «فإني أعطي رجالاً حديثي عهدٍ بكفرٍ أتألَّفهم». [البخاري (4331)، ومسلم (1059)].
ويرى الإمام ابن القيِّم - استدلالاً بهذه الحادثة -: أنَّه قد يتعيَّن على الإمام أن يتألَّف أعداءه لاستجلابهم إليه، ودفع شرِّهم عن المسلمين، فيقول: الإمام نائبٌ عن المسلمين، يتصرَّف لمصالحهم وقيام الدِّين، فإن تعيَّن ذلك - أي: التَّأليف - للدَّفع عن الإسلام، والذَّبِّ عن حوزته، واستجلاب رؤوس أعدائه إليه، ليأمن المسلمون شرَّهم، ساغ له ذلك، بل تعيَّن عليه، فإنَّه وإن كان في الحرمان مفسدةٌ، فالمفسدة المتوقَّعة من فوات تأليف هذا العدوِّ أعظم، ومبنى الشَّريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل بناء مصالح الدُّنيا، والدِّين على هذين الأصلين (ابن القيم، د.ت، ص 3/486).
والتَّأليف لهذه الطَّائفة إنَّما هو من قبيل الإغراء، والتَّشجيع في أوَّل الأمر، حتَّى يخالط الإيمان بشاشة القلب، ويتذوَّق حلاوته.
ويوضح الشيخ محمَّد الغزالي - رحمه الله - حقيقة هذا الأمر في مثالٍ محسوسٍ، فيقول: «إنَّ في الدُّنيا أقواماً كثيرين يُقادون إلى الحق من بطونهم، لا من عقولهم، فكما تُهدى الدَّواب إلى طريقها بحزمة برسيم تظلُّ تَمُدُّ إليها فمها، حتَّى تدخل حظيرتها آمنةً، فكذلك هذه الأصناف من البشر تحتاج إلى فنون الإغراء حتَّى تستأنس بالإيمان، وتهشَّ له».
إنَّ النَّبيَّ (ﷺ) ضرب للأنصار صورةً مؤثِّرةً: قومٌ يبشَّرون بالإيمان يقابلهم قومٌ يبشَّرون بالجِمال، وقوم يصحبهم رسول الله يقابلهم قوم يصحبهم الشَّاء، والبعير، لقد أيقظتهم تلك الصُّور، وأدركوا أنَّهم وقعوا في خطأٍ ما كان لأمثالهم أن يقعوا فيه، فانطلقت حناجرهم بالبكاء، وماقيهم بالدُّموع، وألسنتهم بالرِّضا، وبذلك طابت نفوسهم، واطمأنت قلوبهم بفضل سياسية النَّبيِّ(ﷺ) الحكيمة في مخاطبة الأنصار( العمري، 1984، ص 219).
المراجع:
1. ابن القيم، أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، حقَّقه: شعيب الأرناؤوط، وعبد القادر، الطَّبعة الأولى، 1399هـ، دار الرِّسالة.
2. العمري، أكرم، (1984)، المجتمع المدنيُّ في عهد النُّبوَّة، الطَّبعة الأولى 1404 هـ 1984 م.
3. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 351-353.
4. الشامي، صالح أحمد، (1992)، مِنْ معين السِّيرة، المكتب الإسلامي، الطَّبعة الثانية، 1413 هـ 1992م.