التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (49)
"تدبر الآيات التي نزلت في غزوة حنين"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
قال تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 25 - 27].
في الآيات السَّابقة تصويرٌ بيانيٌّ بديعٌ لحال المسلمين، فيه تنقُّلٌ بالسَّامع من صورةٍ إلى صورة: من صورة المسلمين؛ وهم معجبون بكثرتهم، مسرورون بها، إلى صورة فشلهم، وهزيمتهم مع هذه الكثرة، فلم تنفعهم، إلى صورة الخوف الَّذي أصابهم حتَّى لم تعد الأرض تسعهم، وأقفلت منافذها في وجوههم إلى الصُّورة الحسِّيَّة لهذا الفشل في الفرار، والنُّكوص، وتولية الأدبار حتَّى لم يبقَ حول النَّبي (ﷺ) إلا القليل، وبعد الخوف الشَّديد الَّذي أصاب المؤمنين في مبدأ لقائهم بأعدائهم في غزوة حنين يجيء نصر الله؛ الَّذي عبَّر عنه - سبحانه - بقوله: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾.
السَّكينة: الطُّمأنينة، والرَّحمة، والأمنة، وهي من السُّكون، وهو ثبوت الشَّيء بعد التَّحرُّك، أو من السَّكن، وهو كل ما سكنَت إليه، واطمأنت به من أهلٍ، وغيرِهم (آل عابد، ص 2/598).
وقوله تعالى ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾: قال القاسميُّ: أي: تسكنون، وتثبتون به من رحمته، ونصره، وانهزام الكفار، واطمئنان قلوبهم للكرِّ بعد الفرِّ، وقوله: ﴿وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ قال الطبري: أي: وعذَّب الذين كفروا بالقتل، والسَّبي، والأسر، وذلك هو جزاء الكافرين في الدُّنيا ما داموا يستحبُّون الكفر على الإيمان، ويعادون أهله، ويقاتلونهم عليه.
ثمَّ قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، أي: ويتوب الله من بعد هذا التَّعذيب على من يشاء من المشركين بأن يوفقهم للدُّخول في الإسلام، والله غفورٌ رحيمٌ لمن تاب، وآمن، فرحمتُه وسعت كلَّ شيءٍ (المراغي، ص 4/87).
قال سيِّد قطب في كتابه (ظلال القرآن): «فبابُ المغفرة دائماً مفتوحٌ لمن يخطئ، ثمَّ يتوب، إنَّ معركة حُنين الَّتي يذكرها السِّياق هنا ليعرض نتائج الانشغال عن الله، والاعتماد على قوَّةٍ غير قوَّته لَـتَكْشِفُ لنا حقيقةً أخرى ضمنيَّةً، حقيقة القوى الَّتي تعتمد عليها كلُّ عقيدة. إنَّ الكثرة العدديَّة ليست بشيءٍ، إنَّما هي القلَّة العارفة، المتَّصلة، الثَّابتة، المتجرِّدة للعقيدة، ..... لقد قامت كلُّ عقيدةٍ بالصَّفوة المختارة، لا بالزَّبد الَّذي يذهب جُفاءً، ولا بالهشيم الَّذي تذروه الرِّياح».
إنَّ غزوة حنين سُجِّلت في القرآن الكريم؛ لكي تبقى درساً للأمَّة في كلِّ زمانٍ، ومكان، ولقد عُرِضَتْ في القرآن الكريم على منهجيَّة ربانيَّة كان من أهم معالمها الآتي:
أ - بيَّن القرآن الكريم أن المسلمين أصابهم الإعجاب بكثرة عددهم. قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾، ثم بيَّن القرآن أنَّ هذه الكثرة لا تفيد ﴿فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا﴾.
ب - بيَّن القرآن الكريم: أنَّ المسلمين انهزموا، وهربوا ما عدا النَّبيِّ (ﷺ)، ونفرٌ يسيرٌ من أصحابه. قال تعالى: ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾.
ج - بيَّن القرآن الكريم: أنَّ الله نصر رسوله (ﷺ) في هذه المعركة، وأكرمه بإنزال السَّكينة عليه، وعلى المؤمنين. فقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾.
د - بيَّن القرآن الكريم: أنَّ الله أمدَّ نبيَّه محمَّداً (ﷺ) بالملائكة في حنين. قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾. وأكَّد - سبحانه - على أنَّه يقبل التَّوبة من عباده، ويوفِّق مَنْ شاء إليها. قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
المراجع:
1. آل عابد، محمد بكر، حديث القرآن عن غزوات الرَّسول (ﷺ)، دار الغرب الإسلاميِّ، الطَّبعة الأولى.
1. المراغي، أحمد مصطفى، تفسير المراغي ، طبع دار الفكر - بيروت، الطَّبعة الثالثة، 1394 هـ.
2. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 444-446.