الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

من كتاب الوسطية في القرآن الكريم

(ظهور بدعتي نفي القدر والقول بالجبر)

الحلقة: الخامسة والأربعون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1442 ه/ نوفمبر 2020

في أواخر عصرِ الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانت البداية الحقيقية لنشأة الاختلاف والكلام في القدر؛ إذ نبغ في وقتهم معبد الجهني الذي قال بنفي القدر، كما روى الإمام مسلم عن يحيى بن معمر.

قال: (كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، ثم ذكر يحيى: أنه لقي عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن، ويتقَفَّرون العلم... وإنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنُفٌ.

فقال ابن عمر منكراً عليهم ذلك: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم بُـرَاءُ مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً، فأنفقه، ما قبل الله منه؛ حتى يؤمن بالقَدَر.

ومعبد إنما تلقى هذه المقالة عن رجل نصرانيٍّ كان قد أسلم، ثم تنصر مرة أخرى، فكان معبد أول من نشر ذلك، ونادى به، وأظهره ولاسيما بالبصرة. قال الإمام الأوزاعيرحمه الله: (أول من نطق في القدر رجل تنصَّر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد).

فهؤلاء هم أقطاب القدرية الأوائل، وكان مذهبهم في القدر يدور على أمرين:

أحدهما: نفي علم الله سبحانه بالأشياء قبل وقوعها. والثاني: نفي خلقه لأفعال العباد، وأنها ليست واقعة بقدره، وهؤلاء هم غلاة القدرية الأوائل، وقد انقرض مذهبهم، والمتأخرون منهم يثبتون علم الله سبحانه بالأشياء قبل وقوعها، ونفوا خلقه لأفعال العباد.

قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: (قد انقرض هذا المذهب ـ أي: مذهب غلاة القدرية ـ لا نعرف أحداً ينسب إليه من المتأخرين. قال: والقدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم واقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهب باطل أخفُّ من الأول).

وهذا المذهب هو الذي تبنته المعتزلة، وجعلته أصلاً من أصولها التي قام عليها كيان الاعتزال، وبسبب قولهم به عُرِفوا بالقدرية؛ لنفيهم القدر، وفي مقابل القول بنفي القدر ظهر قول مضاد، ومعاكس له، وهو القول بالجبر، ومضمونه: أن الإنسان مجبور على أفعاله، وأنه لا يقدر منها على شيء، فهو كالريشة في مهب الريح. وأول من عرف عنه القول بذلك في الإسلام الجهم بن صفوان. الذي قال من مقالته: (أنه لا اختيار لأحدٍ في الحقيقة إلا لله وحده، وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز، كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس، وإنما فعل ذلك بالشجرة، والفلك والشمس الله ـ سبحانه ـ...).

ومن خلال مقالتي الطائفتين، يتبين لنا: أن القدرية النفاة مفرطون في هذا الباب، مقتصرون فيه بما سلبوا الله قدرته وقولهم: إن العباد هم الخالقون لأفعالهم، كما يتضح لنا مدى غلو الجهمية الجبرية في إثبات القدر؛ حتى سلبوا الإنسان مشيئته، وإرادته، وعَدُّوه بمنزلة الجماد، وأنه لا فعل له في الحقيقة، وأنه مجبور على أفعاله غير مختار فيها، وكلا الفريقين من الإفراط والتفريط على شفا جرف هار، وبعدٍ عن الطريق المستقيم القصد. فكل منهما قد أخطأ، وضل في هذا الباب، وإن كان هذا لا يمنع أن يكون مع كل منهما بعض الحق والصواب، لكن الحق المحض، والصواب المحض ليس هو في قول واحد منهما، وإنما هو في قولٍ خارج عن قولهما جمع ما عند كل من الفريقين من حق وصواب وخلا مما وقع فيه الفريقان من خطأ وضلال، ذلك هو قول أهل السنة والجماعة في هذا الباب، الذي هو حقٌّ بين الباطلين، وهدىً بين الضلالتين، به كانوا وسطاً بين إفراط، وتفريط الفريقين في هذا الباب، كما سنوضح ذلك في الصفحات القادمة.

يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/file/doc/29.pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022