الأحد

1446-10-29

|

2025-4-27

من كتاب الوسطية في القرآن الكريم

(الإفراط والتفريط في باب القدر)

الحلقة: الرابعة والأربعون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1442 ه/ نوفمبر 2020

قد ضلَّ في باب القدر فرق شتى من الناس، ومنشأ ضلالهم اتبِّاعهم للهوى، ونظرهم إلى النصوص بعين عوراء، فيأخذون ما وافق أهواءهم، ويعمون، أو يتعامون عن غيره، ومن أشهر الفرق التي ضلَّت في هذا الباب ما يلي:
1 ـ الفلاسفة:
الذين أنكروا (علمه تعالى بالجزئيات، وقالوا: إنه يعلم الأشياء على وجه كليٍّ ثابت، وحقيقة قولهم: أنه لا يعلم شيئاً، فإن كل ما في الخارج هو جزئي).
وقد تأثر اليهود والنصارى بالفلسفة القديمة، وتجد في كتبهم المحرفة ما يفيد إنكار علم الله تعالى، كما في سفر التكوين؛ حيث زعم اليهود: أن الله تعالى: (لا يعلم الغيب، ويحتاج إلى علامات يميز بها بني إسرائيل من غيرهم، فوضع الدم علامة على بيوت بني إسرائيل؛ ليميزها عن بيوت المصريين؛ حتى لا يهلكهم).
وأما النصارى فقد جعلوا المخلوق إلهاً، ونفوا عن إلههم أن تكون له إرادة، ومشيئة، وعلم بما يحصل له، أو لمخلوقاته، تعالى الله عن قولهم علوّاً كبيراً! وهذا بسبب بُعْدهم عن الكتب المقدسة الصحيحة، وتأثرهم بالفلسفات الباطلة، ويكفي في الرد عليهم قوله تعالى:
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ *}[الأنعام:59].
2 ـ مَنْ يعتقدون تأثير الكواكب، والأسماء، والأبراج:
كحال الذين ينظرون في النجوم، والأسماء؛ ليستطلعوا من خلالها أسرار القدر، فنجدهم يقولون: إذا ولد فلان في البرج الفلاني، أو كان يحمل الاسم الفلاني؛ فسيصيبه كذا وكذا في يوم كذا وكذا، ومما يقولون ـ
أيضاً ـ من اسمك تعرف حظك، ومن شهر ميلادك تعرف حظك، ونحو ذلك من هذا الهذيان، والتخرص، والرجم بالغيب، فهذا ضلال في باب القدر ؛ لأن القدر غيب، والغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل.
3 ـ غلاة الصوفية:
الذين غلوا في الجبر: (ممَّن يزعمون الترقي في مقام الشهود للحقيقة الكونية، والربوبية الشاملة، فيرون كل ما يصدر من العبد من ظلم، وكفر، وفسوق هو طاعة محضة ؛ لأنها تجري وفق ما قضاه الله، وقدَّره، وكل ما قضاه وقدره فهو محبوب لديه، مرضيٌّ عنده، فإذا كان قد خالف أمر الشاعر بارتكابه هذه المحظورات؛ فقد أطاع إرادة الله، ونفذ مشيئته، فمن أطاع الله في قضائه وقدره هو كمن أطاعه في أمره ونهيه كلاهما قد قام بحقِّ العبودية لله).
(ومن ثم فلا لوم، ولا تثريب، بل الكل مطيع بفعله لإرادة ربه، فصححوا بذلك إيمان فرعون، وعبدة العجل، واليهود، والنصارى، والمجوس).
كما صرح بذلك ابن عربي الصوفي بقوله:
لقد كنتُ قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه دانِ

لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيتٌ لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحبِّ أنَّى توجَّهتْ
ركائبه فالحب ديني وإيماني

وكقول عبد الكريم الجيلي، وهو من أهل وحدة الوجود:

وأسلمت نفسي حيث أسلمني الهوى
وماليَ عن حكم الحبيب تنازع

فطوراً تراني في المساجد راكعاً
وإني طوراً في الكنائس راتع

إذا كنت في حكم الشريعة عاصياً
إني في علم الحقيقة طائع

وكما قال أحدهم:
أصبحت منفصلاً بما يختاره
منِّي ففعلي كله طاعات

وهذا المذهب من أخبث المذاهب، ولا يشك بكفر أصحابه، بل هو من أقبح أنواع الكفر. قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (فإن من احتج بالقدر، وشهود الربوبية العامة لجميع المخلوقات، ولم يفرق بين المأمور، والمحظور، والمؤمنين، والكفار، وأهل الطاعة، وأهل المعصية؛ لم يؤمن بأحد من الرسل، ولا بشيءٍ من الكتب، وكان عنده إبليس، وادم سواء، ونوح، وقومه سواء، وفرعون، وموسى سواء، والسابقون الأولون، وكفار مكة سواء). فلا يشك عاقلٌ في كفره.
4 ـ الجبرية:
(وهم الذين غلوا في إثبات القدر؛ حتى أنكروا أن يكون للعبد فعل ـ حقيقة ـ لا بل هو في زعمهم لا حرية له، ولا فعل، كالريشة في مهب الريح، وإنما تسند إليه الأفعال مجازاً، فيقال: صلى، وصام، وقتل، وسرق، كما يقال: طلعت الشمس، وجرت الريح، ونزل المطر، فاتهموا ربهم بالظلم، وتكليف العباد بما لا قدرة لهم عليه، ومجازاتهم على ما ليس من فعلهم، واتَّهموه بالعبث في تكليف العباد، وأبطلوا الحكمة في الأمر والنهي ألا ساء ما يحكمون!) .
وهؤلاء في الحقيقة يزعمون: أن الله هو الفاعل الحقيقي لأفعالهم، بخلاف ما عليه أهل السنة، الذين يقولون: إن الله هو الخالق، والعبد هو الفاعل، ولذا ترتب على فعله الثواب، والعقاب، وهؤلاء ـ الجبرية ـ يسمَّون بالقدرية المشركية ؛ لأنهم شابهوا المشركين في قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا}[الأنعام: 148] وهذا كلام ظاهر البطلان .
5 ـ القـدرية:
وهم أتباع معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، وأتباع واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيدمن المعتزلة، ومن وافقهم هؤلاء هم القدرية، وقولهم في القدر: إنَّ العبد مستقل بعمله في الإرادة، والقدرة، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته في ذلك أثر، ويقولون: إن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، وإنما العباد هم الخالقون لها، ويقولون: (إن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئته الشاملة، وغلاتهم ينكرون أن يكون الله قد علمها، فيجحدون بمشيئته الشاملة، وقدرته النافذة، ولهذا سموا مجوس هذه الأمة ؛ لأنهم شابهوا المجوس الذين قالوا: إن للكون إلهين: إله النور: وهو خالق الخير، وإله الظلمة: وهو خالق الشر).
والقدرية جعلوا لله شريكاً في خلقه، فزعموا: أن العباد يخلقون أفعالهم، واستدلوا استدلالاً أعور ببعض الايات، كما في قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ *}[التكوير:28].
وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: 29].
وأوّلوا ما عدا ذلك مما يخالف مذهبهم كما في قوله تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *} [التكوير: 29] ومنشأ ضلال هؤلاء في البداية: أنهم أرادوا تنزيه الله عز وجل عن الشر، فوقعوا في نفي القدر، ويكفي في الرد عليهم قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ *}[الصافات:96].
يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/29.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022