(بعض الأدلة حول وجوب نصب الرئيس)
الحلقة: 10
بقلم: د. علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1443 ه/ نوفمبر 2021
1 الأدلة من السنة الفعلية:
إن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام أول حكومة إسلامية في المدينة، وصار صلى الله عليه وسلم أول إمام لتلك الحكومة، فبعد أن هيأ الله لهذا الدين من ينصره ؛ بدأ صلى الله عليه وسلم في تشييد أركانها، فأصلح ما بين الأوس والخزرج من مشاكل وحروب طاحنة قديمة، ثم اخى بين الأنصار والمهاجرين، ونظم الجيوش المجاهدة لنشر هذا الدين، والذود عن حماه، وقد أرسل الرسل والدعوات إلى ملوك الدولة المجاورة يدعوهم إلى الإسلام، وعقد الاتفاقات والمعاهدات مع اليهود وغيرهم،وأبان أحكام الأسرى وما يتعلق بهم، وأحكام الحرب وأهل الذمة، وقام بتدبير بيت مال المسلمين، وأقام الحدود الشرعية والعقوبات، إلى غير ذلك من مظاهر الدولة ووظائف الإمامة، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا، وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة.
ومن المعلوم أن قيام هذه الدولة وزعامته صلى الله عليه وسلم لها لم يكن هدفاً له في حد ذاته، وإنما هو من مستلزمات هذا الدين الذي لا يتم إلا به، كيف وقد عرضت عليه قريش من أول وهلة الملك عليها من دون تعب ولا جهاد، ليتركَ سبِّ الهتهم، فرفض ذلك رفضاً باتاً، وإنما كان هدفه الوحيد صلى الله عليه وسلم القيام بتبيلغ هذه الرسالة، وحملها إلى الناس، واتخاذ كافة الوسائل المؤدية إلى ذلك، ومن هذه الوسائل قيام الدولة، فهي واجبة لهذا الغرض، ولأنها من مستلزمات هذا الدين.
2 ـ الإجماع:
أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على وجوب تنصيب الإمام، حتى أنهم قدموا ذلك على تجهيز الرسول صلى الله عليه وسلم ودفنه، وقد نقل الإجماع طائفة من العلماء، وإليك أقوالهم:
أ ـ قال الماوردي: الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسة الدين، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع.
ب ـ وقال النووي: لابد للأمة من إمام يقيم الدين، وينصر السنة، وينتصف للمظلومين، ويستوفي الحقوق، ويضعها في موضعها.
ج ـ وقال ابن حجر الهيثمي: اعلم أيضاً أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة، وقالوا: إنه واجب، بل جعلوه أهم الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
د ـ وقال ابن خلدون: نصب الإمام واجب، وقد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين؛ لأن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من بعد ذلك، ولم تترك الناس فوضى في عصر من الأعصار، واستقر ذلك إجماعاً دالاً على وجوب نصب الإمام.
3 ـ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب:
ومن الأدلة على وجوب الرئاسة القاعدة الشرعية القائلة بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد علم أن الله سبحانه وتعالى أمر بأمور ليس في مقدور احاد الناس القيام بها؛ ومن هذه الأمور إقامة الحدود، وتجهيز الجيوش، وإعلاء كلمة الله، وجباية الزكاة، وصرفها في مصارفها المحدودة، وسد الشغور، وحفظ حوزة المسلمين، ونشر العدل، ودفع الظلم، وقطع المنازعات الواقعة بين العباد... إلى غير ذلك من الواجبات التي لا يستطيع أفراد الناس القيام بها، وإنما لابد من إيجاد سلطة قوية لها حق الطاعة على الأفراد، تقوم بتنفيذ هذه الواجبات، وهذه السلطة هي الرئاسة.
فبناء على ذلك يجب تعيين إمام يُخضع له ويطاع، ويكون له حق التصرف في تدبير الأمور حتى يتأتى له بهذه الواجبات.
يقول ابن حزم: وقد علمنا بضرورة العقل وبديهته أن قيام الناس بها أوجبه الله من الأحكام عليهم في الأموال، والجنايات، والدماء، والنكاح، والطلاق، وسائر الأحكام كلها، ومنع الظالم، وإنصاف المظلوم، وأخذ القصاص على تباعد أقطارهم وشواغلهم واختلاف ارائهم، وامتناع من تحرى في كل ذلك ممتنع غير ممكن؛ إلى أن قال:.. وهذا الذي لابد منه بضرورة، وهذا مشاهد في البلاد التي لا رئيس لها، فإنه لا يقام هناك حكم حق، ولا حدّ ؛ حتى قد ذهب الدين في أكثرها، فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد أو أكثر.
4 ـ دفع أضرار الفوضى:
كما أن من الأدلة على وجوب الرئاسة دفع أضرار الفوضى؛ لأن عدم اتخاذ إمام معين من الأضرار والفوضى ما لا يعلمه إلا الله، ودفع الضرر، وحماية الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والعرض، والمال، والعقل؛ واجب شرعاً، ومن مقاصد الشريعة حفظها، وهذا ما لا يتم إلا بإقامة إمام للمسلمين، فدل على وجوبه.
قال الإمام أحمد في رواية محمد بن عوف بن سفيان الحمصي: الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر المسلمين.
إن الدنيا والأمن على الأنفس والأموال لا ينتظم إلا بسلطان مطاع، فتشهد له مشاهدة أوقات الفتن بموت السلاطين والأئمة، وإن ذلك لو دام ولم يتدارك بنصب سلطان اخر مطاع دام الهرج، وعمّ السيف، وشمل القحط، وهلكت المواشي، وتعطلت الصناعات، وكان كل من غلب سلب، ولم يتفرغ أحد للعبادة والعلم إن بقي حياً، والأكثرون يهلكون تحت ظلال السيوف؛ ولهذا قيل: الدين والسلطان توءمان، ولهذا قيل: الدين أسٌّ والسلطان حارس، وما لا أُسَّ له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع.
5 ـ الإمامة من الأمور التي تقتضيها الفطرة وعادات الناس:
ومن الأدلة أيضاً أن النزوع إلى تنصيب رئيس لأي شعب أمر فطري، جبل الله الخلق عليه، حيث إن الإنسان مدني بالطبع ـ كما يقال ـ فهو لا يستطيع أن يعيش بمفرده وحيداً مستقلاً عن أخيه الإنسان الآخر، بل لابد أن يعيش مع الناس حتى تستقيم أمور حياته، وتتحقق مصالحه، ونتيجة لمخالطة الناس الآخرين قد تتعارض مصالحهم مع مصالحه، ويحدث الاحتكاك بينه وبينهم، ويحصل التنازع، فلابد من أمير يختصم إليه الناس، ويرتضونه ليحكم في منازعتهم وخصوماتهم، ومن هنا كان تنصيب الإمام أمراً ضرورياً للمحافظة على حقوق الناس، وضمان استقرار الحياة، والسلطة المسيرة للمجتمع هذه هي إحدى الأركان المكونة لأي مجتمع كان، فلا يمكن أن يقوم أي مجتمع ما لم تكتمل أركانه، وقديماً قال الشاعر:
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ولا عماد إذا لم ترسَ أوتادُ
فإن تجمع أوتـــــــــــــــاد وأعــــمدة يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والنزوع إلى اتباع قائد معين ليس مما فطر الله عليه بني الإنسان فحسب، بل يشاركهم في ذلك بعض الحيوانات والحشرات، فأنت ترى الإبل تكون عادة تابعة لقائدها: «الجمل الفحل» تتبعه حيث سار، ولذلك لا يهتم راعي الإبل إلا بتوجيه هذا القائد، ومن ثم تتبعه البقية، أما الحشرات فلا أدل من بروز تلك الفطرة منها عند النحل الذي يتخذ له «ملكة» من سلالة معينة يقوم بحمايته، وتوفير ما يحتاجه، ويتبعه حيث كان، فما بالك بالإنسان الذي منحه الله العقل، وجعله يدرك الخطأ والصواب، ويعرف ما ينفعه مما يضره.
يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي