(وجوب نصب الرئيس)
الحلقة: 9
بقلم: د. علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1443 ه/ نوفبر 2021
1 ـ الأدلة القرانية:
ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بوجوب تنصيب الخليفة أو رئيس الدولة، وقالوا: إنه واجب، وقالوا: إن الأمة اثمة إذا لم تقم بهذا الواجب، وحيثما خلا عصر من العصور أو فترة من فترات حياتها من وجود إمام، أو رئيس للدولة، فجميع أفراد هذه الأمّة اثمون، ولا يخرجهم من هذا الإثم، ولا يرفع عنهم هذا الوزر إلا العمل بجد وبكل ما في وسعهم لإيجاد أمير عام ومبايعته وتنصيبه ، ومن الأدلة على ذلك:
قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا *يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *}[النساء: 58 ـ 59] .
وجه الاستدلال من الآية الأولى هو أن الله تبارك وتعالى أمر المسلمين بأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، والخطاب في الاية عام يشمل كل أمانه يتحتم على الأمة أداؤها، ومن بينها اختيار الرئيس، أو الحاكم، أو الأمير، فاختيار رئيس للمسلمين من بين المواطنين في دولة ما أمر في غاية من الخطورة والأهمية لما يترتب عليه من تسليمه مقاليد الأمور، وزمام تسيير الأمة وسياستها بالطرق والتدابير التي يراها كفيلة بتحقيق الخير والرفاه لرعاياه، لذا فاختيار الرئيس من أعظم الأمانات الملقات على عاتق الشعوب الإسلامية، وأداء هذه الأمانة هو اختيار من هو أهل لذلك من جميع الوجوه، أو من تتوافر فيه معظمها، وإلا فتعتبر الشعوب مفرطة في أداء الأمانة في هذا الجانب.
وقال القرطبي: والأظهر في الاية أنها عامة في جميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال، ورد الظلامات، والعدل في الحكومات، وهذا اختيار الطبري، وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرر في الشهادات وغير ذلك، كما جاء عن الإمام الزمخشري قوله: {أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] الخطاب عام لكل أحد من كل أمانة.
وجاء في تفسير المنار: أمر الله تعالى برد الأمانات إلى أهلها، وبالحكم بين الناس بالعدل مخاطباً بذلك جمهور الأمة، ولما كان يدخل في رد الأمانات توسيد الأمة أمر الأحكام إلى أهلها القادرين على القيام بأعبائها، وكان يجب الحكم بالعدل مراعاة لما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وما يتجدد للأمة من الأحكام، وكانت المصلحة في ذلك لا تحصل إلا بالطاعة، قال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59].
وهاتان الآيتان هما أساس الحكومة الإسلامية ولو لم ينزل في القرآن غيرهما لكفتا المسلمين في ذلك، إذ هم بنوا جميع الأحكام عليها.
إن نصب رئيس للدولة واجب شرعي، وفريضة دينية؛ بحيث لو فرطت الأمة فيه كانت اثمة، فالقران الكريم أمرنا بطاعة ولاة الأمر، ولم يتعرض لموضوع تنصيبهم على اعتبار أن موضوع التنصيب من الأمور المفروغ منها، والتي لا تحتاج إلى أمر أو حث؛ لأن الناس سيسعون إليه بدافع الطبع والضرورة سعيهم إلى الطعام والشراب، ولأن الناس بدون أمن ولا استقرار يتعذر عليهم الحصول على الطعام والشراب، وإن تحصلوا عليه فبمشقة ونكد يفقدهم لذته، وينغص عليهم حياتهم، ويكدر عليهم صفو معيشتهم، والأمن والاستقرار لا يتحققان إلا بوجود الوازع المادي، وهو السلطان القائم على مصالح العباد وحفظ الأمن في ربوع البلاد.
ومن الأدلة قول الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} {مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ *}[الحديد: 25] .
فمهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام ومن أتى بعدهم من أتباعهم أن يقيموا العدل بين الناس على وفق ما في الكتاب المنزل، وأن ينصروا ذلك بالقوة، وهذا لا يتأتى لأتباع الرسل إلا بتنصيب إمام يقيم فيهم العدل، وينظم جيوشهم؛ ولهذا: فالدين الحق لابد فيه من الكتاب الهادي والسيف الناصر، فالكتاب يبين ما أمر الله به وما نهى عنه، والسيف ينصر ذلك ويؤيده.
ومن الأدلة القرآنية أيضاً جميع ايات الحدود والقصاص ونحوها من الأحكام التي يلزم بها وجود الرئيس، فالواقع أن جميع الآيات القرآنية التي نزلت بتشريع حكم من الأحكام التي تتعلق بموضوع الرئاسة وشؤونها جاءت على أساس أن قيام الرئاسة والقيادة العامة في المجتمع شيء مفروغ من إثباته، ولا نقاش في لزومه، ذلك لأن الأحكام المشار إليها من الأمور التي يتوقف امتثالها وتنفيذها على وجود الرئيس لأنها من مسؤولياته ووظائفه، فتشريع مثل هذه الأحكام يلزمه مسبقاً المفروغية من تشريع حكم لزوم الرئاسة، وقيام الدولة في المجتمع، وهذا ينبهنا إلى أن لزوم الرئاسة وإقامة الدولة في المجتمع الإسلامي من بديهات وضروريات الشريعة الإسلامية.
2 ـ الأدلة من السنة القولية:
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة فيها دلالة على وجوب نصب الرئيس، ومن هذه الأدلة ما يلي:
أ ـ ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».
أي: بيعة الإمام «الرئيس» وهذا واضح الدلالة على وجوب نصب الإمام؛ لأنه إذا كانت البيعة واجبة في عنق المسلم، والبيعة لا تكون إلا لإمام، فنصب الإمام «الرئيس» واجب.
ب ـ ومنها ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم»، ومثله عن أبي هريرة وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمّروا أحدهم».
فالحديث إذاً ينص على وجوب تأمير أمير على جماعة قليلة كالثلاثة في السفر، وهذا يدل أن الوجوب يكون اكد وأوجب في حق الجماعة الكبيرة المستقرة على وجه الدوام، ألا وهي المجتمع الإسلامي الكبير؛ الذي يعد بمئات الألوف والملايين.
وحديث عبد الله بن عمر ينص على أنه يحرم على ثلاثة أن يسيروا في أرض دون أن يؤمروا عليهم أحدهم، فمن باب أولى أن يحرم على أمة أن تعيش دون أن تنصب عليها أميراً.
إن ولاية أمر الناس من أعظم الواجبات، بل لاقيام للدين إلا بها، فإن بني ادم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد لهم عند الاجتماع من رأس فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيهاً بذلك على سائر أنواع الاجتهاد.
وعن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتنقضن عرا الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تثبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقض الحكم وآخرهن الصلاة».
قال الدكتور عبد الكريم زيدان: والمقصود بالحكم: الحكم على النهج الإسلامي، ويدخل فيه بالضرورة وجود الخليفة الذي يقوم بهذا الحكم، ونقضه يعني التخلي عنه، وعدم الالتزام به، وقد قرن بنقض الصلاة، وهي واجبة، فدلّ على وجوبه.
عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ـ من حديث طويل ـ: «إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة».
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على وجوب طاعة الحكام فيما لا معصية فيه، وأحاديث البيعة، والأمر بالوفاء بها للأول فالأول، وحرمة الخروج على أئمة المسلمين، والحث على ضرب عنق من جاء ينازع الإمام الحق، كل هذه الأحاديث توجب إيجاد رئيس للدولة الإسلامية.
يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي