(الانتقادات التي وجهت لمعاوية بشأن البيعة ليزيد)
الحلقة: 51
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1443 ه/ يناير 2022م
لقد حمل كثير من المؤرخين السابقين والمعاصرين معاوية رضي الله عنه مسؤولية البيعة الكاملة، وبالتالي حملوه جميع الأخطاء التي يقع فيها الحكام من زمان معاوية حتى عصرنا الحاضر، فمنهم من اتهمه بالخروج على نظام الشورى في الإسلام، فكان أول محطم لنظام الإسلام، فمنهم من اتهم معاوية بأنه أقر النظام الذي يعتمد على السياسة أولاً وإلى الدين ثانياً، والبعض شبه معاوية بالملوك الأقدمين من الفرس والروم، والبعض يجعل معاوية بهذه البيعة هو رائد المدرسة «المكيافيلية» في السياسة القائمة على تسويغ الوسيلة من أجل الغاية، والبعض حكم على معاوية بارتكابه كبيرة أضافها إلى كبائره السابقة، والبعض اعتبر معاوية خارجاً عن إجماع المسلمين بهذه البيعة.
إن معاوية قصد بإحداث ولاية العهد في نظام الحكم جمع كلمة المسلمين، وحقن دمائهم، ولكنه كان قادراً على أن يجعل العهد بعده لغير ولده من كبار الصحابة الموجودين في تلك الفترة، وكان فيهم كفاءات لو أسند إليهم الأمر، فقد كان الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر وغيرهم موجودين في هذا الوقت، ولكن معاوية عدل عن هؤلاء، وقصد ولده ليكون خليفة بعده، وبذلك حصل التغيير الحقيقي في نظام الحكم الإسلامي، فليس التغيير في إيجاد نظام ولاية العهد، ولكن التغيير في أن يكون ولي العهد ولد الخليفة، أو أحد أقاربه، حتى أصبحت الحكومة ملكية بعد أن كانت خلافة راشدة.
وإذا كنا مأمورين باتباع سنة الرسول وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، فإن التزام نظام الوراثة ليس من سنة النبي ولا سنة خلفائه الراشدين، كما أن يزيد لم يكن موفقاً لأسباب منها: إن المجتمع الإسلامي يومئذ كان فيه من هو أحق وأولى بالخلافة من يزيد في سابقته وعلمه وعمله ومكانه وصحبته، كعبد الله ابن عمر، وابن عباس وغيرهم، فأين الثرى من الثريا؟.
ومنها: مبدأ توريث الحكم من الأب لابنه، فإنهم لا ينزهون معاوية ولا من هو أفضل منه من الذنوب، فضلاً عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد، بل يقولون إن للذنوب أسباباً تدفع عقوبتها من التوبة، والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك، وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم.
ومعاوية رضي الله عنه من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم، وما هو ببريء من الهنات، والله يعفو عنه، والذي يجب أن نعتقده في معاوية أن قلوبنا لا تنضوي على غل لأحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل نقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *}[الحشر: 10].
ونقول بأن معاوية اجتهد للأمة خوفاً عليها من الانقسام والفتن، ولا يمكن أن يحمل تبعات كل أخطاء الملوك والأمراء الذين جاؤوا من بعده ؛ كما قرره عبد القادر عودة رحمه الله، حيث يقول: وأقام معاويةُ أمر الأمة الإسلامية على المحجات والظلم وإهدار الحقوق، وقضى على الشورى، وعطل قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشوري: 38]، وحوَّل الحكم العادل النظيف إلى حكم قذر قائم على الأهواء والشهوات، ووجَّه الناس إلى النفاق والذلة والصغار، ولا شكَّ أن كل من جاؤوا بعده إلى عصرنا هذا قد عمل بسنّته، وتشبَّثوا ببدعته ؛ حاشا عمر بن عبد العزيز، فعلى معاوية وقد استنّ هذه السُّنة السَّيئة إثمها، وإثم مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة.
إذا كان معاوية ـ أو الخلفاء الأمويون ـ قد حوّلوا الخلافة من الشورى إلى الملك، فإن حفيده معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ثالث خلفاء الأمويين قد أعاد الخلافة من الملك العضوض إلى الشورى الكاملة، وإنه لما يستوجبه الإنصاف أن تصاغ القضية على هذا النحو بدلاً من التركيز على الشق الأول الخاص بتوريث الخلافة فقط، ولم تستطع الأمة التي أعطيت حقها في اختيار خليفتها أن تعود إلى شكل من أشكال الاختيار السابق في عصر الراشدين، وبرر بوضوح دور العصبية الإقليمية والقبلية، وحسم في النهاية الصراع الدائر حول منصب الخلافة لمصلحة البيت الأموي، واستطاعت الشام أن تحقق الحسم التاريخي بعمق الالتحام بين بنائها القبلي، والوجود الأموي.
والحقيقة أن بيعة يزيد قد قبلها الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد بايعه ستون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ابن عمر خوفاً من الفتنة، وحرصاً على وحدة الصف، فقد توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بعيد خروج معاوية من المدينة، ولم يبق من المعارضين إلا ثلاثة هم: ابن عمر، وابن الزبير، والحسين بن علي، أما ابن عمر فلما رأى الناس مجتمعة على يزيد بايعه؛ وأرسل بيعته بعد وفاة معاوية رضي الله عنه، وقال: إن كان خيراً رضينا به، وإن بلاءً صبرنا.
وانحصرت المعارضة في شخص ابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم، ولقد تورط الكثير من الباحثين في الروايات الضعيفة والموضوعة فيما يتعلق بتاريخ صدر الإسلام، وبنوا عليها تصورات وأفكاراً وأحكاماً تحتاج إلى إعادة نظر من جديد.
ومع ما وقع من انحراف في تغيير النموذج الأعلى لنظام الحكم الإسلامي، التي تتمثـل فيه روح الإسـلام الكاملة وهو الخلافة، واسـتبدال المـلك العضوض به، إلا أن الطابع الإسلامي هو الصفة الغالبة على مظهر الدولة وتصرفات الحكام، فالصلاة تؤدى في أوقاتها، والزكاة تحصَّل من أربابها، والصوم فريضة لا يُعارض في أدائها، وإقامة الحدود دون هوادة لم يقف شيء دون تنفيذها، والجهاد في سبيل الله فريضة ماضية بين رجالها، وبالجملة كانت تعاليم الإسلام مطبقة بحذافيرها.
يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي