الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

(محمد البشير الإبراهيمي المفكر العظيم)

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):

الحلقة: 196

بقلم: د.علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1443 ه/ أكتوبر 2021

من صفات الإبراهيمي أنه كان مفكراً متميزاً من الطراز الأول، وكان مفكراً يحترم نفسه وعقله وفكرته ودعوته.. فيتجنب التناقض والزلل، ويمضي في اثاره الكتابية ضمن قواعد جعلته كاتباً له قضاياه الفكرية الأصلية التي توقف عندها يدعو إليها ويبشر بها، وله منهجه الفكري الذي يتميز به حين يطرح هذه القضايا ويدلل عليها، فقد ساد عمل الإبراهيمي الفكري في القضايا التي عالجها، وخاصة منها ما كان في توضيح رؤية الجزائريين للجزائر، وأسلوبه في ترسيخ المقومات وتثبيت الذات ساده مجموعة من القواعد الفكرية يقوم عمله عليها وينطلق منها، ومن هذه القواعد:
أ ـ قاعدة المقارنة مع الأوضاع المماثلة: عند الشعوب والديانات الأخرى.
والمقارنة أقرب الأساليب إلى نفوس الناس، وأخصر طرق الكاتب إلى توضيح ما يريد إيضاحه:
ـ ونجد لذلك مثلاً واضحاً في مقارنته بين سلوك الأديان الثلاثة في الجزائر وعملها وما خلفته من اثار: فعلى حين تعرّف الإسلام في إبان قوته وعنفوان فورته إلى الدينين الاخرين بالحق والخير، والعدل والإحسان، وأبقى على الدماء والعقائد والمعابد، بل حماها وحافظ عليها أكثر من محافظة الدول المسيحية، وضرب الخراج على الأرض، ولكنه لم يخرج أهلها غصباً، وضرب الجزية على الرقاب، ولكنه حماها من الظلم، وفتح لها باب العلم.. على حسن فعل الإسلام ذلك ؛ فإن الاستعمار الفرنسي جاء الجزائر يحمل السيف والصليب، ذاك للتمكن وهذا للتمكين، فملك الأرض، واستعبد الرقاب، وفرض الجزى، وسخر العقول والأبدان.
ـ ونجده كذلك واضحاً في المقارنة بين الاستعمارين الفرنسي والإنجليزي، وبين الاستعمار الفرنسي والعالم الاستعماري كله.
فقد خالفت فرنسا هذا العالم الاستعماري كله وخرقت إجماعه، فهو يسالم الأديان حتى الباطل منها وغير المعقول، ويترك أهلها أحراراً في شعائرهم ومعابدهم، أما هي فتضايق الإسلام في الجزائر وتحتكر معابده وشعائره، وتمتهن رجاله، وتبتلع أوقافه، فلا مسجد إلا ما فتحته، ولا مفتي إلا من حنّفته وملّكته، ولا شيخ طريق إلا من سلّكته، ولا حاج إلا من حجّجته أو نسّكته، ولا صائم ولا مفطر إلا على يد لجنتها، ولا هلال إلا ما شهد برؤيته قاضيها.
وقال: والاستعمار كله رجس من عمل الشيطان. ولكن هناك تفاوتاً بين استعمار واستعمار، فاستعمار يباشر وسائله بالحقد، ويشربها معاني من الانتقام، واخر يباشر بنوع التسامح واللين، والاستعمار الفرنسي من النوع الأول، وبين النوعين فرق، وإن كانا بغيضين ممقوتين.. وفي الشر خيار لا يقدره قدره إلا المبتلى بالأشد من أنواعه.. ساء مثلاً الاستعماران، ما يقعد منهما الروحانيات المقعد الحسن، وما يقعدها المقعد الوطيء، وما يتعمدها بالقتل العرضي، وما يبتليها بالموت البطيء.. وسيسوءان ـ وإن طال أمدهما ـ مصيراً، وسيخذلهما القاهر الذي يمهل ولا يهمل، ولا يجدون من دونه ولياً ولا نصيراً.
ـ وكذلك نجده واضحاً في مثل المقارنات التي كان يعقدها بين عمل جمعية العلماء وعمل الأحزاب والمؤسسات الأخرى.
هذا إلى سلسلة طويلة من المقارنات الأخرى التي عقدها البشير خلال مقالاته بين الحاكم والمحكوم، وبين الأصيل والدخيل، وبين الأحزاب في المشرق والأحزاب في أوربا، وبين الإسلام الحقيقي وبين الإسلام «الجزائري» الذي كانت تريده فرنسا للجزائر.
ولا تتخذ هذه المقارنات كلها نمطاً واحداً، وما كان لها ذلك مع اختلاف الموضوع وطبيعته والظروف التي تحيط بمعالجته، ومدى ما يكون انذاك من حرج يواجه الباحث حين يطرقه.. ولذلك تباينت الأبعاد التي تطبق بها هذه المقارنات في طبيعتها، عمقاً وقرباً، وقسوة وليناً، وانكماشاً وانبساطاً، وتصريحاً وتلويحاً، وكما تباينت في حدودها المكانية والزمانية، فقد تتجاوز الحاضر إلى الماضي، وقد تتجاوز الجزائر في الحاضر إلى الماضي في الأندلس، وقد تنعقد بين الجانب النظري والصورة العملية، وبين الأوضاع في الجزائر والأوضاع في فرنسا، ولعل من أبرزها هذه المقارنات:
ـ بين القول والفعل في عمل الفرنسيين.
ـ وبين إكرام الإسلام للمسيحية واليهودية.
ـ وأخص المقارنة بين مفهوم السياسة والدين عند الاستعمار، ومفهوم ذلك عند الإسلاميين في سلسلة مقالاته عن جمعية العلماء.
وقد يتعذر على الباحث، وهو في ضيق من الوقت، أن يضيف كل أبعاد هذه المقارنات.. ولكنه لن يغفل البعد الذي يطالعه دائماً في النهاية التي تنتهي إليها هذه المقارنات جميعاً، وهي نتائج تتسم بالإيجابية والتفاؤل، وتمضي إلى غايتها في تأصيل مقومات الجزائر، أو في الإشادة بالعمل الإصلاحي لجمعية العلماء، أو بالنعي على الاستعمار وأنصاره، وسيكون لنا فضل حديث على الجانب الإيجابي في الفقرات التالية إن شاء الله.
وفي هذه المقارنات نستبين أقداراً لا تكاد تحصر أو تحصى من الحكمة وحسن المعالجة، وغزارة المادة، والنفاذ إلى القضايا الشائكة ومعالجتها بالحق والصدق، وتلك بعض مظاهر القدرة الفكرية عند الإبراهيمي.
ب ـ النزعة إلى العقل وعلمي المنطق والأصول: إن ثقافة الإبراهيمي الإسلامية، وخاصة في علمَيْ المنطق والأصول، وهما العلمان اللذان يضبطان التفكير عند الإنسان، ويعملان على إيجاد القواسم المشتركة بين المنظرين والمفكرين، والمتناقشين والمتحاورين، ويكونان اللغة المتبادلة بينهم، جعلت معالجته حافلة بالقواعد المنطقية التي ينزل عندها كل ذي عقل سليم، فهو كثيراً ما يتحدث عن علاقة ما بين الأصول والفروع:
وأي عاقل لا يدرك أن الأصول مقدمة على الفروع، أو يتحدث عن العلاقة بين الشرط والمشروط، ولا توجد الأمة إلا بتثبيت مقوماتها من جنس ولغة ودين وتقاليد صحيحة وعادات صالحة وفضائل جنسية أصيلة، وبتصحيح عقيدتها وإيمانها بالحياة، وبتربيتها على الاعتداد بنفسها، والاعتزاز بقوتها المعنوية، والمغالاة بقيمها وبميراثها، وبالإمعان في ذلك كله، حتى يكون لها عقيدة راسخة تناضل عنها وتستميت في سبيلها، وترى أن وجود تلك المقومات شرط لوجودها، فإذا انعدم الشرط انعدم المشروط.
ويتصل بالنزعة المنطقية أنه كان حريصاً على أن يجمع في دراساته ومقالاته بين الجزئيات والكليات، يستخدم الجزئيات لأنها سهلة على الفهم، قريبة التناول، متصلة بالأحداث نابعة منها.. ثم يسوقها ليكون منها الكليات التي يعمل على تثبيتها.
والنص الذي تقدم مثل صالح لذلك، فهو تحدث عن المقومات وعددها، ثم تحدث عن تصحيح العقيدة، ثم عن التربية بجزئيات منها: وبتربيتها على الاعتداد بنفسها والاعتزاز بقوتها المعنوية، والمغالاة بقيمها وبميراثها، وبالإمعان في ذلك كله حتى يكون لها عقيدة راسخة تناضل عنها وتستميت في سبيلها، وترى أن وجود تلك المقومات شرط لوجودها.
ولعل مما يتصل بهذه النزعة المنطقية كذلك قدرة البشير على أن يستغل التناقضات بينه وبين خصمه أروع استغلال، وأن يوظفها توظيفاً محكماً لمصلحة الفكرة التي يدعو إليها، فيشكل بأسلوبه الفذ القضية على النحو الذي يؤدي إلى التسليم له بها.
فإذا كان الخلاف بين فرنسا والجزائر خلافاً بين فهمين متناقضين للدين والسياسة، وخلافاً بين قيمتين مطلقتين هما الحق والباطل، فما كان أقدر الإبراهيمي على أن يصوغ ذلك هذه الصياغة التي تضع القضية في أكمل صورها وأدق مواقفها، وينتهي بها إلى ما يريد.
فقد ختم حول هذه القضية بهذا المقطع الذي يخاطب فيه الاستعمار: وهبنا وإياك فريقين: فريق أخضع الدين للسياسة ظالماً، وفريق أدخل السياسة في الدين متظلماً، فهل يستويان؟ إننا إذا حاكمناك إلى الحق غلبناك، وإذا حاكمناك إلى القوة غلبتنا، ولكنا قوم ندين بأن العاقبة للحق لا للقوة.
إن لمقالات الإبراهيمي وبحوثه طعماً خاصاً، وهي لا تفتقر إلى العنصر العاطفي ولكنها لا تخضع له، وإنما تحاول أن تكسوه هذه الغلاف العقلاني الذي يدين الخصم، فلا يستطيع ـ إذ ظل في حدود المنطق السليم ـ أن يتحلل منه أو يفلت من نتائجه. إنك مع مقالاته في عالم حي تشع فيه العاطفة حيناً، ويشع فيه العقل أكثر الأحايين، ويشترك العقل والعاطفة في إضاءته في كل حين.
إن الإبراهيمي من خلال مقالاته وخطبه واثاره ؛ يتبين لنا أنه شخصية مفكرة من طراز فريد، مع تميز في طرحة الدعوي والفكري. ويشعر من يقرأ له مرات عديدة وعلى مراحل من العمر بالجديد في الفكر وتزاحم المعاني وقوة الألفاظ وروعة الأسلوب.
وكان الإبراهيمي بالإضافة إلى ذلك متفوق الذكاء، مصلحاً مجدداً ينادي باستقلال الفكر، ويحارب الجمود والتقليد، يقول فيه الشاعر محمد العيد ال خليفة:
وما هو إلا كاتب ثاقب الحجى
ورائد فكر مصلح ومجدد

ينادي إلى حرية الفكر لا هجاً
بها منكراً وما يدعي المتقيد

وإن رام إذكاء العقول فمشعل
وإن رام إرواء القلوب فمورد

يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022