(محمد البشير الإبراهيمي المصلح الكبير)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 195
بقلم: د. علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1443 ه/ أكتوبر 2021
كان واضحاً كل الوضوح في فكر الإمام البشير، ومنذ فجر جهاد العلماء المسلمين الجزائريين، أن الأستاذ الإمام محمد عبده هو «المصلح العظيم»، و«إمام المصلحين» و«أعجوبة الأعاجيب» و«صاحب التأثير الأكبر في حركة الإصلاح الجزائرية»..
ولقد كتب في تقرير هذه الحقيقة (1935م): إنه لا نزاع في أن أول صيحة ارتفعت في العالم الإسلامي بلزوم الإصلاح الديني والعلمي في الجيل السابق لجيلنا هي صيحة إمام المصلحين الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنه، وأنه أندى الأئمة المصلحين صوتاً، وأبعدهم صيتاً في عالم الإصلاح، فلقد جاهر بالحقيقة المرة، وجهر بدعوة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى الرجوع إلى الدين الصحيح، والتماس هديه من كتاب الله وسنة نبيه، وإلى تمزيق الحجب التي حجبت عنا نورهما وحالت بيننا وبين هديهما، مبيناً بصوت يسمع الصم، وبلاغة تستنزل العصم، أن علة العلل في سقوط المسلمين وتأخرهم وراء الأمم، وانحطاطهم عن تلك المكانة التي كانت لهم في سالف الزمن ؛ هي بعدهم عن ذلك الهدي الروحاني الأعلى، وأنه لا يرجى لهم فلاح في الدنيا ولا في الاخرة، ولا صلاح حال يستتبع صلاح المال، ولا عزة جانب، تردّ عنهم عادية الغاصبين من الأجانب ؛ إلا إذا راجعوا بصائرهم واسترجعوا ذلك الهدي الذي لم يغصبه منهم غاصب، وإنما هجروه عن طوع أشبه بالكره، واختيار أشبه بالإضرار، فباؤوا بالمهانة والصغار، والضعة والخسارة.
كانت تلك الصيحة الداوية من فم ذلك المصلح العظيم صاخّة لاذان المتربصين بالإسلام، ولاذان المبطلين من تجار الولاية والكرامات وعبدة الأجداث والأنصاب ولاذان الجامدين من العلماء.. وجمعوا لها وملكتهم غشية الذهول ؛ علماً منهم أن أول اثارها إذا تغلغت في النفوس ؛ هو قطع الطريق على المتربصين وهدم سلطان المبطلين الزائف، ومكانتهم الكاذبة، وجاههم الخادع، وجفاف المراعي الخصبة التي كانوا يسيمون فيها شهواتهم ولذاتهم، ونضوب المنابع الروية من المال الذي كانوا يعلّون منها وينهلون..
كان الأستاذ الإمام أعجوبة الأعاجيب في الألمعية،وبُعد النظر، وعمق التفكير، وجدّة الخاطر، واستنارة البصيرة، وسرعة الاستنتاج، واستشفاف المخبات، حكيم بكل ما تؤديه هذه الكلمة من معنى.
منقطع النظير في صدق الإلهام، وسداد الفهم، وصدق العزيمة، وخصب القريحة، واستقلال الفكر، ونصاعة الاستدلال، وتمكّن الحجة.
موفور الحظ من طهارة الدخيلة، والانطباع على الفضيلة، مستكمل الأدوات من فصاحة المنطق، وذلاقة اللسان، وقرطسة الفراسة، ودقة الملاحظة، وسلامة العبارة، ومطاوعة البديهة، ورباطة الجأش، وكبر الهمة، ووفرة الملكة الخطابية، وقوة العارضة في البيان، واتساع الصدر لمكاره الزمان وأهله.
حجة من حجج الله في فهم أسرار الشريعة ودقائقها وتطبيقها، وفي البصر بسنن الله في الأنفس والافاق، وفي العلم بطبائع الاجتماع البشري وعوارضه ونقائصه.
وبالجملة، فالرجل فذ من الأفذاذ، الذين لا تكونهم الدراسات وإن دقت، ولا تخرجهم المدارس وإن ترقت، وإنما تقذف بهم قدرة الله إلى هذا الوجود، وتبرزهم حكمته، في فترات متطاولة من الزمن على حين انتكاس الفطرة، واندراس الفضيلة، وانطماس الحقيقة، فيكون وجودهم مظهراً من مظاهر رحمة الله بعباده، وحجة للكمال على النقص، وإصلاحاً شاملاً وخيراً عميقاً.
ولو أن قول الشاعر:
هيهات لا يأتي الزمان بمثله
إن الزمان بمثله لبخيل
لم يبتذله المترجمون للرجال بوضعه في غير موضعه، حتى صاروا ينشدونه في حق أشخاص يتكرم علينا الزمان بمئات من مثلهم في كل جيل، لولا هذا الابتذال السخيف لهذا البيت لقلنا: إن أحق رجل بانطباقه وصحة إطلاقه هو الأستاذ الإمام، فرضي الله عن الأستاذ الإمام .
وبعبقرية حضارية، يلمح الإمام البشير ما بين «العبقرية العلمية» و«عبقرية المكان» الذي ظهرت فيه، فتغذت منه، واستفادت من تأثيراته على ما وراءه من افاق.. يلمح هذا البعد الحاكم في تأثيرات هذه المدرسة الإصلاحية على ما وراء مصر من البلاد.. فيقول:
وسبحان من قسم الحظوظ بين الجماعات فأعطى كل جماعة حظّاً لا تعدوه، وفرَّق الخصائص على البقاع، فخصَّ كل بقعة بسرٍّ لا يعدوها، فما زلنا نستجلي من صنع الله لك ـ «يا مصر» ـ وللإسلام لطيفة سماوية، وهي أنه كلما رثت جدَّة الإسلام وخالطته المحدثات ؛ سطع في أفق من افاقه نجم يهدي السارين إلى سوائه، وارتفع صوت بالدعوة إلى أصول هدايته، ثم لا يلبث ذلك النجم أن يخبو، وذلك الصوت أن يخفت، إلا أن نجماً سطع في أفقك ـ «يا مصر» ـ وصوتاً ارتفع في أرجائك، وقد ارتفعت أصوات بالإصلاح الديني في أقطار الإسلام، وفي حقب معروفة من تاريخه، فضاعت بين ضجيج المبطلين وعجيج الضالين، إلا صوت «محمد عبده» فإنه اخترق الحدود وكسر السدود.
وتحت عنوان «نشوء الحركة الإصلاحية في الجزائر»:
إن التأثير الأكبر في تكوينها يرجع إلى عدة عوامل:
أولها: نوازع جزئية محدودة، أحدثتها في النفوس المستعدة ؛ الأحاديثُ المتناقلة في الأوساط العلمية عن الإمام محمد عبده، ولو من خصومه الممعنين في التشنيع عليه وسبه ولعنه ـ وما أكثرهم بهذا الوطن:
فكانت تلك الأحاديث تفعل فعلها في النفوس المتبرمة من الحاضر، والمستشرفة إلى تبدله بما هو خير، وتكيفها تكييفاً جديداً، وتغريها أولاً بالبحث عن منشأ هذه الخصومة العنيفة لهذا الرجل. فإذا علمت أن منشأ ذلك دعوته إلى القران، أو ادعاؤها الاجتهاد كما كانوا يقولون ـ قرب هذا الاسم منها، فأحبته ولجّت في الانتصار له، إن لم تتبين مشربه كل التبيُّن.
ثانياً: ويضاف إلى هذا العامل قراءة «المنار» ـ على قلة قرائه في ذلك العهد ـ واطلاع بعض الناس على كتب المصلحين القيمة، ككتب ابن تيمية، وابن القيم «691 ـ 751هـ/ 1292 ـ 1350م»، والشوكاني «1173 ـ 1250هـ/ 1760 ـ 1834م» ؛ فهذا عامل له أثره في التمهيد للدعوة الإصلاحية.
.. لقد نجمت في هذه العهود الأخيرة ناجمة اضطراب وتبرم من طرائق التعليم المتبعة وكتبه الملتزمة، وارتفعت الأصوات بالشكوى من أضرارها وسوء عواقبها، وكأن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أعلى الحكماء صوتاً بلزوم إصلاحها، وأبلغهم بياناً لأضرارها وسوءاتها ومعايبها، وأسدّهم رأياً في تغييرها بما هو أجدى منها وأنفع، وأكثرهم عملاً جدّياً في ذلك.
كان الشيخ الإبراهيمي من صفاته الواضحة إيمانه بالإصلاح، إيماناً عظيماً، وتتلمذ على روادها في عصره، وأصبح من رموز المدرسة الإصلاحية بنكهة بلاغية، وأخلاقية وروحية، وعلمية جزائرية، تشهد دعوته للإصلاح قوتها من كتاب الله عز وجل وفهمه الصحيح للإسلام وفي مقاله عن «الإسلام والمسلمون» يقول:
إن التاريخ لم يعرف ديناً من الأديان لم يبق على أساس الجنسية ولم يرجع على قواعدها إلا دين الإسلام، فهو لا يختص بجنس، وهو صالح لكل جنس، وهو موافق لكل فطرة، وهو ملائم لكل نفس.. وقد اندفع في سيره الأول إلى جهات المعمورة الأربع، وانتظم أمماً مختلفة الأجناس واللغات والطبائع والألوان، فأصبحت تلك الأمم ـ على ما بينها من تباين خلقي ـ أمة واحدة مطبوعة بطابع واحد وهو طابع الإسلام، فما هو السر في هذا ..؟
السر هو أنه دين فطري روحي، يحمل في طياته نهاية الكمال الإنساني، وأن أصوله بنيت على حكمة من خالق الحكمة، فتجد في عقائده غذاء العقل، وفي عبادته تزكية النفس، وفي أحكامه رعاية المصلحة، وفي ادابه خير المجتمع، وأن ديناً يأخذ من شرطه التخلق بالأخلاق الشريفة، ويعمد إلى الأرواح مباشرة فيغرس فيها أصول الفضائل الإنسانية، ويعمد إلى الحيوانية فيهذب من حواشيها ويكسر من حدتها، ويفلّ ما فيها من شره وشراسة، ويعمد إلى ما بين المستضعفين والمستكبرين من حاجز وفروق فيجعلها جذاذاً، لحقيقٌ بأن ينتظم تلك الأمم ومثلها معها..
بل وإن التاريخ لم يشهد ديناً جمع بين مطالب الروح والجسم، إلا هذا الدين، وإن السعادة لا تتم في الدارين إلا بالتوفيق بين المطلبين، وهذه عقبة العقبات في طريق السعادة، وسبب الأسباب في استكمالها واختلاقها، وأين تقع القوانين التي هي وضع البشر من التوفيق بين هذين المطلبين.
وإذا كان في الديانات السماوية قبل الإسلام ما لا يفي بحاجة البشر من تحصيل السعادتين ؛ فكيف بالقوانين الوضعية ونحن نرى أرقاها في أرقى الأمم موجهاً إلى استطلاع البدن، واشباع شهواته ورغائبه، ونراها لا تحمل من جراثيم الإصلاح الروحي إلا قليلاً لا يشفي ولا يكفي.
ويقول عن هجر المسلمين للقران وإبتعادهم عنه:
إن أعظم مصيبة أصابت المسلمين ـ وهي جفاؤهم للقران وحرمانهم من هديه وادابه ـ منشؤها من الطرق، فهي التي غشت المسلمين لأول ما طاف بهم طائفها، وغشيهم بهذه الروح الخبيثة روح التزهيد في القران. وكيف لا يزهد المسلمون في القران، وكل ما فيه من فوائد وخيرات وبركات قد انتزعتها منه الطرق وجردته منها، ووضعته في أورادها المبتدعة، ورسومها المخترعة، ونحلته شيوخها ومقدميها وصعاليكها.
ولماذا يعنى الناس أنفسهم في فهم القران، وتدبره وحمل النفس على التخلق بأخلاقه والوقوف عند حدوده؛ إذا كان كل ما يناله منه مع هذا التعب يجده في الطريق عفواً بلا تعب وبلا سبب أو بأيسر سبب؟ فإذا كان هذا القران يفيد معرفة الله ـ وهي أعلى مطلب ـ فالقوم عارفون بالله، وإن لم يدخلوا كتاباً ولم يقرؤوا كتاباً، وكل من ينتسب إليهم فهو عارف بالله، بمجرد الانتساب أو مجرد اللحظة من شيخه.
وقال الإبراهيمي أيضاً: وقد قرأنا كثيراً من رسائلهم التي يتراسلون بها، فإذا هم ملتزمون لصفة واحدة يصف بها بعضهم بعضاً، وهي صفة «العارف بالله»، وأكثر الطرقيين سخاء في إعطاء هذا اللقب هم «العلوية»، ونحن قد عرفنا كثيراً من هؤلاء «العارفين بالله» فلم نعرفهم إلا حمراً ناهقة.وإذا كان القران متعبداً بتلاوته اللفظية، وهو ستون حزباً ؛ فإن تلاوة «إنجيل التيجاني» القصير وهو «صلاة الفاتح» مرة واحدة تعدل ستة الاف ختمة من القران.
وإذا كان القران قد شرع الغزو ـ وهو من أحمز الأعمال وأشقها ـ فإن تلاوة الإنجيل التيجاني مرة واحدة تعدل الاف الغزوات، وهي لا تقوم إلا على حركة اللسان، من غير اقتحام للميدان، ولا تعرض للرمح والسنان.
فأي تعطيل للقران أعظم من هذا؟ وأي تهويل لشعائر الإسلام ونقض لحكمها أكبر من هذا؟ وأي تزيين للتفلت من تلك يبلغ ما يبلغه هذا الكلام، من مثل هذا الدجال؟.
واهتمامات أستاذنا الإبراهيمي بنهضة الأمة في شتى ميادين الحياة، وفي كل أجزائها الطبيعية والاجتماعية اهتمام المصلح الخبير، والمجدد القدير، الذي عرف الأمراض ووصف بنجاح العلاج والدواء الشافي.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com