(محمد البشير الإبراهيمي المجتهد الشجاع)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 197
بقلم: د.علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1443 ه/ أكتوبر 2021
الإبراهيمي من علماء الإصلاح، وضد الجمود والخمود، وكان ثائراً بمعنى الكلمة، ودعا إلى إعمال العقل وفتح باب الاجتهاد، والبحث عن وسائل نهضة الأمة، وشنَّ حرباً لا هوادة فيها على دعاة الجمود، حيث قال: ثم ما لهم «أسرى المألوف وأحلاف الجمود» ـ سامحهم الله ـ يجمعون بين المتناقضات فيحجرون الاجتهاد على الأحياء والأموات، إلا أن طائفة معينة كانت في زمن معين وقد مضت ومضى زمانها وجف القلم بأقوالها، ويبنون على هذا أنه لم يبق من سبيل في سبيل علم الدين إلا التقليد، قلنا: ولمن؟ قالوا: لأولئك المجتهدين. قلنا: سلمنا، فهلم بنا إلى كتبهم وارائهم المتصلة الأسانيد إليهم، ولكنهم يتناقضون فيقلدون حتى في أدق العبادات العملية التي لا تؤخذ إلا من نص صريح من اية محكمة أو حديث صحيح ـ المهدي الوزاني وابن الحاج ـ حتى فيما لا نسبة فيه ـ ولا غرو ـ لأحد من أهل التخريج.
ويقول أيضاً: إن في الفقه فقهاً لا تصل إليه المدارك القاصرة وهو لب الدين، وروح القران، وعصارة سنة محمد (ص)، وهو تفسير أعماله وأقواله وأحواله وماخذه ومتاركه، وهو الذي ورثه عن أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وهو الذي يسعد المسلمون بفهمه وتطبيقه والعمل به، وهو الذي يجلب لهم عز الدنيا والاخرة، وهو الذي نريد أن نحييه في هذه الأمة، فتحيا به وتصحح به عقائدها وتقوم به فهو معها، فتصح به عبادتها وأعمالها، فإن العبادات هي أثر العقائد، كما أن الأعمال هي أثر الإرادات، وما يبنى منها على الصحيح يكون صحيحاً، وما يبنى على الفاسد يكون فاسداً.
ومن المعاني السامية التي احتوى عليها هذا النص:
ـ المجتهد هو الشخص الذي يستطيع أن ينفذ إلى لب الفقه والدين، ولا يركن إلى الجمود والخمود، فيجهل حقيقة الدين، ويجهل تبعاً لذلك الحكم المنطوية تحت أحكامه. ويصور لنا الإبراهيمي بشاعة التقليد والجمود الذي تسبب في جهل المسلمين فيقول: جهل المسلمون حقائق دينهم وجهلوا الحكم المنطوية تحت أحكامه، ومن أسباب ذلك جفاف الفقه عند الفقهاء، لأخذهم إياه من كتب تعلم الأحكام ولا تبين الحكم، فأثر ذلك في نفوس المتفقهة ـ وهم مرجع العام في سياسة الإفتاء ـ اثاراً سيئة منها اعتبار تلك الأحكام تعبدية ؛ تحفظ ألفاظها، ولا يتحرك الفكر في التماس عللها، وطلب حكمها، وتعرّف مقاصد الإسلام منها وتفضح وجوه المصلحة والمفسدة.
ـ المجتهد هو الشخص القوي المدارك، الملمّ بأصول الفقه، وبطرق الاستنباط، وبقواعد اللغة العربية، وبمقاصد الشريعة، وهو ما لخصه الغزالي أثناء حديثه عن المجتهد في قوله: وله شرطان: أحدهما، أن يكون محيطاً بمدارك الشرع، متمكناً من استثارة الظن بالنظر فيها، وتقديم ما يجب تقديمه، وتأخير ما يجب تأخيره. والشرط الثاني، أن يكون عدلاً مجتنباً للمعاصي القادحة في العدالة ؛ وهذا يشترط لجواز الاعتماد على فتواه، لأن من ليس عدلاً فلا يقبل فتواه.
ـ الفقه الحقيقي الذي يبلغه المجتهد هو جوهر الدين، روح القران وعصارة السنة، وهما المصدران الرئيسيان اللذان تستنبط منهما الأحكام ويؤخذ منهما الفقه الأكمل، يؤخذ من عمل السلف وكتب العلماء المستقلين المستدلين التي تقرن المسائل بأدلتها وبحكمة الشارع منها.
يقول الإبراهيمي: ولو أن فقهاءنا أخذوا الفقه من القران ومن السنة القولية والفعلية، ومن عمل السلف، أو من كتب العلماء المستقلين المستدلين التي تقرن المسائل بأدلتها وتبين حكمة الشارع منها ؛ لكان فقههم أكمل، واثاره الحسنة في نفوسهم أظهر، ولكانت سلطتهم على المستفتين من العامة أمتن وأنفذ، ويدهم في تربيتهم وترويضهم على الاستقامة في الدين أعلى.
وإن من يأخذ فقه الطلاق من اية: {ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ} [سورة البقرة:229]، ومما بعدها من الايات الامرة بالوقوف عند حدود الله، الناهية عن تعديها، أو من اية:{ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ } [سورة البقرة:236].
أو من اية الحكمين ووعد الله بالتوفيق عند الإصلاح، وبالإغناء من واسع فضله عند التفرق، أو من اية تخيير النبي أزواجه بين حالين أحدهما التمتيع والسراح الجميل ؛ من أخذ فقه الطلاق من هذا المنبع العذب يعلم أي حكم مبثوثة تحت كل كلمة وكل جملة، ومن تفقه هذا الفقه ونشره في الناس يبعد جداً أن يتلاعب بتلك العقدة الإلهية التي عقدها الله بين الزوجين، فيضعها في موضعها المعروف بين المسلمين الان.
ـ الفقه الحقيقي هو الذي يجلب للمسلمين سعادة الدنيا والاخرة، ويضمن لهم العلو والمجد في جميع المجالات، وما زال مجد المسلمين وعزهم إلا لأنهم تقاعسوا عن التفقه في الدين، وتقوقعوا داخل طقوس جامدة وقوالب جاهزة ؛ ودينهم يحثهم على التدبر والتفقه والتبصر.
ـ هدف الإبراهيمي وأصحابه من العلماء هو إحياء الفقه لتحيا الأمة به، وهو هدف المصلحين على مر العصور، كالغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين»، وابن تيمية في فتاويه، وهدفه أيضاً تصحيح عقائد الأمة، وتقويم فهومها كي تصح عباداتها وأعمالها. ولا تصح العبادات والمعاملات إلا إذا بنيت على الصحيح.
إن الإبراهيمي كان شعلة من الذكاء النافذ والإيمان الصادق والعزم الثابت، ظهر إلى الوجود بفضل الله ومنّه في عصر الإصلاح، الذي قاده الشيخ عبد الحميد ابن باديس، وقد ألهمته الفطرة أن العلم ما فهم وهضم لا ما روي وطوي، فراح يطلبه بلا كلل ليصل إلى الحِكَم من وراء الأحكام، وإلى الأدلة والحجج من وراء الاراء والمذاهب، ولقد حضر دروس الشيخ أحمد البرزنجي في صحيح البخاري، وكان يسمع من علماء.
ـ وكان عالماً بالحديث والسيرة وبالمحدثين ومؤلفي السير.
ـ كما كان عالماً بالتفسير ومناهجه.
ـ وكان مطلعاً على الفقه وأصوله اطلاعاً واسعاً، ثائراً على العصبيات المذهبية، مستوعباً لمقاصد الشريعة وحكمها، عارفاً بطرق الاستدلال والاستنباط، عليماً بمنطق اللسان العربي وأسراره، ولقد ناقش الكثير من المسائل الفقهية بعمق كبير يدل على صدى معرفته بالفروع.
وأثار في هذه المقالات العديد من المسائل الأصولية.
ـ وكان الإبراهيمي بالإضافة إلى ذلك متفوق الذكاء، مصلحاً مجدداً ينادي باستقلال الفكر ويحارب الجمود والتقليد، يقول فيه محمد العيد ال خليفة:
وما هو إلا كاتب ثاقب الحجى
ورائد فكر مصلح ومجدد
ينادي إلى حرية الفكر لا هجاً
بها منكراً وما يدعي المتقيد
وإن رام إذكاء العقول فمشعل
وإن رام إرواء القلوب فمورد
لم يخلف لنا الإبراهيمي مؤلفاً خاصاً يتحدث عن علم أصول الفقه، وكل ما سنقوله في هذا الصدد مستخلص من اثاره.
فالشيخ البشير الإبراهيمي عالم بأسرار القران الكريم وبأسرار السنة النبوية والإجماع والقياس، وهي المصادر الأساسية الأربعة للتشريع الإسلامي، وهو مطلع على الكنوز التي خلفها لنا الأصوليون في مجال الاستنباط والاستدلال، وفي مجال القياس، ولا سيما فيما يتعلق بشروط علة الأصل وتعليل الحكم الشرعي وتخصيص العلة المستنبطة، وكذلك الأمر فيما يتعلق بشروط علة الأصل، إما في عينها أو جنسها، وأن يكون الحكم في الفرع مماثلاً لحكم الأصل في عينه أو جنسه وألا يكون الحكم متقدماً على الأصل.
وهو مطلع أيضاً على ما جيء به من مجال جمع الأشباه بالأشباه، والشبه في اصطلاح الأصوليين يطلق على كل قياس من إلحاق الفرع فيه بالأصل لجامع بشبهه فيه.
ويعتقد الإبراهيمي ـ وهو على حق في اعتقاده ـ أنه على المجتهد أو الفقيه أن يعرف المصلحة التي قصدها الشارع، والعلة التي ربط بها الحكم.
وقد احتاج الفقهاء إلى المصلحة إذا لم يعثروا على دليل شرعي واضح من الكتاب والسنة والإجماع على جواز شيء أو عدم جوازه، وما لبثوا أن جعلوها معياراً من معايير الاستدلال.
كل ما تقدم يدلنا على أن الإبراهيمي قد اطلع على الكنوز الأصولية من تعليل وتأصيل، وتفريع واستنباط، واستخراج علل الأحكام، وجمع الأشباه بالأشباه، ومراعاة المصالح ؛ ليكون التشريع الإسلامي صالحاً لكل زمان ومكان.
يقول الإبراهيمي: إن أصحاب المذاهب لم يفرضوا على الأمة التقليد، بل نصحوا وبينوا وبذلوا الجهد في الإبلاغ، وحكّموا الدليل ما وجدوا إلى ذلك السبيل، وأتوا بالغرائب في باب الاستنباط والتعليل والتفريع والتأصيل. ولهم في باب استخراج علل الأحكام وبناء الفروع على الأصول وجمع الأشباه بالأشباه والاحتياط ومراعاة المصالح ما فاقوا به المشرعين من جميع الأمم.
كان للإبراهيمي صلة وثيقة بمجتهدي عصره، قرأ لهم وقرأ عنهم، واتصل بمعظمهم، وربط معهم روابط صداقة متينة.
أ ـ المودودي: أعجب الإبراهيمي كثيراً بأبي الأعلى المودودي وبشخصيته الفذة وبفكره السياسي الإسلامي، وهو في نظره أبرع عالم في استخراج ذلك الدستور من القران والحديث، ومن المصلحة العامة في التشريع الإسلامي والأصول المتفق عليها بين الأمة، لذلك يصفه لنا الإبراهيمي وصف المعجب بشخصيته وأفكاره.
فيقول: إنه سديد التصرف في المقارنة والموازنة والاستنباط، مستقل في الاستدلال إلى حد يمضي من الشريعة إلى مقاصدها العامة دون احتفال بالجزئيات إلا بقدر ما يدخل من هذه إلى تلك.
ب ـ الشيخ محمد بهجت البيطار: يتميز هذا الشيخ الجليل في نظر الإبراهيمي بكونه لا يرضى بالعصبية المذهبية ولا بعلماء التقليد والجمود، ويتصف بالاستقلال في الفهم، يقول الإبراهيمي: إنه مجاوز للحدود المذهبية والإقليمية، يزن هذه المذاهب الشائعة باثارها في الأمة، لا بأقدار الأئمة، ويعطي كلاًّ ما يستحق، لا يرضى بكبراء الدعوى وأمراء السوء وعلماء التقليد، يرجع في ذلك كله إلى الاستقلال في الفهم والاستدلال.
ج ـ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: قال فيه الشيخ البشير الإبراهيمي: ذلك الإمام المدرب الفقيه المجتهد الجامع لشروط الإمامة.
د ـ رشيد رضا: وإن إعجاب البشير الإبراهيمي بالشيخ محمد عبده يساوي إعجابه بتلميذه الشيخ رشيد رضا.
ولقد التقى الشيخ البشير الإبراهيمي بالشيخ رشيد رضا، وأعجب بشخصيته الفذة وعبقريته في كتابه تفسير الشيخ محمد عبده، وأعجب بسلفيته الحقة واستقلاله في العلم، لقد أحدث رشيد رضا: انقلاباً فكرياً في فهم الدين وصلته بالدنيا حتى في أصلب البلدان عوداً وأشدها جموداً، لذلك يقول عنه الإبراهيمي: إنه في بناء الإصلاح الركن والدعامة، وفي هيكل الإصلاح الرأس والهامة.
هـ ابن باديس: ولقد أعجب أيضاً الإبراهيمي بصديقه وزميله الأستاذ الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس، الذي يتميز: بلسان قوال وعزم صوال وفكر جوال، وهو العلم الجم والفضل العد، وصاحب جواهر الحجا والذكاء والعزم والجد.
كان الإبراهيمي أحد قادة هذه الحركة الإصلاحية إلى جانب ابن باديس والميلي والتبسي وغيرهم.
لقد أهّلته مواهبه وعلمه الغزير وعلمه بالقران والسنة وأصول الفقه وفروعه وبأسرار اللغة العربية من طرح المسائل الأصولية طرح المتخصص، ومن توضيح قضايا الاجتهاد والتقليد وطرق الاستدلال، وصال وجال في ميادين يهاب من اقتحامها فحول الأصوليين، فتحدث عن «هوس الرواية»، وعن الرواية والدراية، وعن مقاصد الشرع وحكمه، وعن القياس والاستصلاح، وعن الاجتهاد والجمود والتقليد، وعن دور العلماء في المجتمع الإسلامي.
وإن الثورة على الجمود والتقليد لا تعني في نظر الإبراهيمي بأية حال من الأحوال التشهي والتلذذ والانقياد للأهواء في الفتوى، بل على المفتي أن يحترم طرق الاستنباط المفصلة في أصول الفقه.
والإبراهيمي يدعو إلى نبذ روح الخمول والكسل والجمود والتقليد والعصبية المذهبية، كما يدعو أيضاً إلى سلوك طريق الابتكار، وإلى النظر وإلى العلم التطبيقي العملي، وإلى تطبيق الجزئيات على الكليات، وهو روح العلم، ولا علم بدونه.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: