الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

(نفي محمد البشير الإبراهيمي إلى «افلو» بالجزائر ووفاة ابن باديس)


من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 192
بقلم: د.علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1443 ه/ أكتوبر 2021

رفض الشيخ محمد البشير الإبراهيمي دعم فرنسا في الحرب العالمية الثانية، وتمَّ نفيه من قبل السلطات الفرنسية إلى منفاه بمدينة «افلو»، قال الإبراهيمي عن ذلك: ولما ضاقت فرنسا ذرعاً بأعمالي ونفد صبرها على التحديات الصارخة لها، وأيقنت أن عاقبة سكوتها عنا هو زوال نفوذها وخاتمة استعمارها، اغتنمت فرصة نشوب الحرب العالمية الثانية، وأصدر رئيس وزرائها إذ ذاك «دالاديى» قراراً يقضي بإبعادي إلى الصحراء الوهرانية إبعاداً عسكرياً لا هوادة فيه، لأن في بقائي طليقاً حرَّاً خطراً على الدولة، كما هي عبارته في حيثيات القرار، ووكل تنفيذ قراره للسلطة العسكرية، فنقلوني للمنفى في عاشر أفريل سنة 1940م.
ووصلت إليه في منفاه بمدينة «افلو» اخر رسالة من أخيه الشيخ عبد الحميد بن باديس، وكانت وجيزة الألفاظ وقوية المعاني، جاء فيها:
الأخ الكريم الأستاذ الشيخ البشير الإبراهيمي سلمه الله.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد بلغني موقفكم الشريف الجليل العادل، فأقول لكم: الان يا عمر؟، فقد صنت العلوم والدين، صانك الله وحفظك في تركتك، وعظّمتهما عظّم الله قدرك في الدنيا والاخرة، وأعززتهما أعزّك الله أمام التاريخ الصادق، وبيّضت محيّاها بيّض الله محيّاك يوم القيامة وثبّتك على الصراط المستقيم، وجب أن تطالعني برغباتك، والله المستعان.
وبعد أيام فقط من نفيه إلى افلو، وبعد أربعة أيام فقط من كتابة هذه الرسالة الخالدة توفي إلى رحمة الله الشيخ الرئيس الإمام عبد الحميد بن باديس، فجاء نعيه بعد تلك الرسالة بهذا الموت الفجائي، ونشرت جريدة «لاديبيش الحريان» الخبر مقتضباً مع صورة الإمام في الصفحة الأولى في 17 أفريل، فحزن الإبراهيمي حزناً بالغاً، وبكى بكاءً مراً، وضاق صدره لعدم تمكنه من حضور جنازته، ففوض أمره إلى الله واسترجع، وكتب إلى إخوانه بقسنطينة رسالة تعزية بث فيها أحزانه وشجونه، وقسم نفسه إلى قسمين: نفس سائلة، ونفس مجيبة.
ننقل للقراء من الرسالة الأسئلة والأجوبة:
قال رحمه الله:
وسألت نفس أختها بأين؟
فأجابت المجيبة بلا أين؟
سؤال السائلة:

أين؟ـ يا أخت الحسام المنتضى


لصروف الدهر في اليوم العصيب

أين؟ يا أختـ الإمام المرتضى


ذو البيان الحر والرأي المصيب

أين؟ من إن أمحل الفكر مضى


يرحض الأمحال بالفكر الخصيب

جواب المجيبة:

جاءه المحتوم من صرف القضاء


فقضى لم يرض بالدنيا نصيب

سؤال:

أين؟ يا أخت ..هلال الداجية


فارس الحلبة كشاف الكربكان

نوراً في الليالي الساجية


ويل قومي إن توارى أو غربأين؟

يا أخت إمام الناجية


وأمين الله عن مجد العرب

جواب:

حرمت منه النفوس الراجية


وتمثلت حظها منها الترب

سؤال:

أين؟ حامي الدين من شوب الضلال


ومجير الحق من إفك الهوىأين؟

يا أخت حواري الجلال


صيقل الأذهان إكسير القوى

عاف خفض العيش في برد الظلال


وامتطى للمجد نزاع الشوى

جواب:

خير الأظعان والحي الحلال


أن نجم الدين فيهم قد هوى

سؤال:

أين؟ ليث كان بالأمس هنا


خادراً قد ملأ الدنيا زئير

أغلبا في لبدتين ارتهنا


عن عرين الدين يرمي ويجير

ما ونى عن فرصة أو وهنا


هل رأيت المخذم العضب الطرير

جواب:

مسدودة في أوجه الأخصام


والحمى أصبح نهباً للمغير

سؤال:

أين؟ منا اليوم يا أخت الرئيس


كم به قد رفع القوم الرؤوس

ما له غاب؟ فما منه حسيس


ما له أقصر واليوم عبوس

من رمى الأمَّة بالجد التعيس


وسقاها جرع الغم كؤوس

جواب:

غاله من خاتل الموت دسيس


فهو قد أصبح رهناً في الرموس

إلى أن قال: والسلام عليكم مجتمعين على الحق ومتفرقين في خدمة الحق.
أخوكم المعتد بوجودكم وعطفكم

محمد البشير الإبراهيمي

افلو يوم السبت 13 رجب الفرد عام 1359هـ.

وأرسل محمد البشير الإبراهيمي رسالة تعزية في ابن باديس للأستاذ أحمد توفيق المدني:
الأخ الأستاذ أحمد توفيق المدني حفظه الله:
أخي!.
أَعتقد أن الراحل ـ أخي العزيز ـ لم يكن لأحد دون أحد، بل كان كالشمس لجميع الناس، وأعتقد أن فقده لا يحزن قريباً دون بعيد، وأن أوفر الناس حظاً
من الأسى لهذا الخطب هم أعرف الناس بقيمة الفقيد وبقيمة الخسارة بفقد للعلم والإسلام، لا للجزائر وحدها، فلهذا بعثت أعزيكم على فقد ذلك البحر الذي غاض بعد أن فاض ببقاء اثاره في الحياض وأنهاره في الرياض، كما يعزى على مغيب الشمس بشفقها، وعن ذبول نضارة الشباب ببقاء رونقها، وإن كانت التعازي تعاليل لا تطفأئ الغليل، ولكنها على كل حال تحمل بعض الروح من كبد تتلظى شجناً إلى كبد تتنزى حزناً.
وظني في أخي ؛ أنه لو كان يعرف عنواني لكان أول معزٍّ لأول معزَّى.
واحسرتاه!. رحم الله الراحل العزيز جزاء ما بث من علم وزرع من خير، وثقف من نفوس، ولله ذلك اللسان الجريء، وذلك الجنان المشع، وذلك الرأي الملهم، وإنا لفقدك يا عبد الحميد لمحزنون.
أخوكم الحزين الإبراهيمي


ـ تولي الإبراهيمي قيادة جمعية العلماء:

قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: وبعد استقراري في المنفى بأسبوع، تلقيت الخبر بموت الشيخ عبد الحميد ـ رحمه الله ـ بداره في قسنطينة بسرطان في الأمعاء، كان يحس به من سنوات ويمنعه انهماكه في التعليم وخدمة الشعب من التفكير في علاجه، وقد شيع جنازته عشرات الألوف من الأمة رغماً عن قسوة الأحكام العسكرية وقت الحرب، واجتمع المجلس الإداري للجمعية ورؤساء الشُّعب يوم موته، وانتخبوني رئيساً لجمعية العلماء بالإجماع، وأبلغوني الخبر وأنا في المنفى، فأصبحت أدير الجمعية وأصرف أعمالها من المنفى بالرسائل المتبادلة بيني وبين إخواني بواسطة رسل ثقاة.
وكنت لما بدأت نذر الحرب تظهر وغيومها تتلبد أجتمع بالشيخ ابن باديس في داري بتلسمان، فقررنا ماذا نصنع إذا قامت الحرب؟ وقررنا من يخلفنا إذا قبض علينا، وقلبنا وجوه الرأي في الاحتمالات كلها، وقدرنا لكل حالة حكمها، وكتبنا بكل ما اتفقنا عليه نسختين، ولكن كانت الأقدار من وراء تدبيرنا فقبضه الله إليه.
بقيت في المنفى ثلاث سنين تقريباً، ولما أطلق سراحي من المنفى أول سنة ثلاث وأربعين، كانت فاتحة أعمالي تنشيط حركة إنشاء المدارس.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022