الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

(انطلاق محمد البشير الإبراهيمي في الدعوة وتأسيس جمعية العلماء)

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):

الحلقة: 191

بقلم: د.علي محمد الصلابي

صفر 1443 ه/ أكتوبر 2021

1 ـ انطلاقه في الدعوة:

استقر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ببلده، وبدأ من أول يوم في العمل الذي يؤازر عمل ابن باديس، وشرع في عقد الندوات العلمية للطلبة، والدروس الدينية للجماعات القليلة، فلما تهيأت الفرصة انتقل إلى إلقاء الدروس المنظمة للتلامذة الملازمين، ثم تدرَّج لإلقاء المحاضرات التاريخية والعلمية على الجماهير الحاشدة في المدن العامرة والقرى الاهلة، وإلقاء دروس في الوعظ والإرشاد الديني كل جمعة في بلد، ثم لما تمَّ استعداد الجمهور الذي هزته صيحات الإبراهيمي إلى العلم، أسَّس مدرسة صغيرة لتنشئة طائفة من الشباب نشأة خاصة، وتمرينهم على الخطابة والكتابة وقيادة الجماهير، بعد تزويدهم بالغذاء الضروري من العلم.

وكانت أعماله هذه في التعليم الذي وقف عنايته عليه فاترة أحياناً لخوفه من مكائد الحكومية الاستعمارية، إذ ليس له سند يأوي إليه كما لأخيه ابن باديس، وكانت حركاته منذ نزل بأرض الوطن مثار ريب عند الحكومة ومنبع شكوك، حتى صلاته وخطبه في يوم الجمعة، فكان يتغطى لها بألوان من التمويه، حتى أنه تظاهر عدة سنين بتعاطي التجارة وغشيان الأسواق لإطعام من يعولهم من أفراد أسرته. ولكن الحكومة كانت تراقب بحذر، ولم تطمئن إلى حركته، فكان بوليسها يلاحقه بالتقارير ويضيق الخناق على كل من يزوره من تونس أو الحجاز، وكل هذا ولم ينقطع عن الدروس لطلبة العلم بالليل.

2 ـ تأسيس جمعية العلماء:

قال الإبراهيمي في هذه الفترة ما بين 1920م إلى 1930م: كانت الصلة بيني وبين ابن باديس قوية، وكنا نتلاقى في كل أسبوعين أو كل شهر على الأكثر، يزورني في بلدي «سطيف»، أو أزوره في قسنطينة، فنزن أعمالنا بالقسط، ونزن اثارها في الشعب بالعدل، ونبني على ذلك أمرنا، ونضع على الورق برامجنا للمستقبل بميزان لا يختل أبداً، وكنا نقرأ للحوادث والمفاجات حسابها، فكانت هذه السنوات العشر كلها إرهاصات لتأسيس جمعية العلماء الجزائريين.

وقال أيضاً: كملت لنا على هذه الحالة عشر سنوات، كانت كلها إعداداً وتهيئة للحدث الأعظم، وهو إخراج جمعية العلماء من حيِّز القول إلى حيِّز الفعل، وأصبح لنا جيش من التلامذة يحمل فكرتنا وعقيدتنا، مسلَّح بالخطباء والكتَّاب والشعراء، يلتفُّ به مئات الالاف من أنصار الفكرة وحملة العقيدة، يجمعهم كلهم إيمان واحد وفكرة واحدة، وحماس متأجج، وغضب حاد على الاستعمار، وكانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء هي:

ألا نتوسع له في العلم، وإنما نربِّيه على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل، فتمَّت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا.

كانت سنة 1930م هي السنة التي تمَّ بتمامها قرن كامل على احتلال فرنسا للجزائر، فاحتفلت بتلك المناسبة احتفالاً قدّرت له ستة أشهر ببرنامج حافل مملوء بالمهرجانات، ودعت إليه الدنيا كلها، فاستطعنا بدعايتنا السرية أن نفسد عليها كثيراً من برامجها، فلم تدم الاحتفالات إلا شهرين، واستطعنا بدعايتنا العلنية أن نجمع الشعب الجزائري حولنا ونلفت أنظاره إلينا.

تكامل العدد وتلاحق المدد.. العدد الذي نستطيع أن نعلن به تأسيس الجمعية، والمدد من إخوان لنا كانوا بالمشرق العربي مهاجرين أو طلاب علم، فأعلنا تأسيس الجمعية في شهر مايو سنة 1931م، بعد أن أحضرنا لها قانوناً أساسياً مختصراً من وضعي أدرته على قواعد من العلم والدين لا تثير شكاً ولا تخيف، وكانت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت تستهين بأعمال العالم المسلم، وتعتقد أننا لا نضطلع بالأعمال العظيمة، فخيَّبنا ظنها والحمد لله.

وقال الشيخ «محمد البشير الإبراهيمي»: دعونا فقهاء الوطن كلهم، وكانت الدعوة التي وجَّهناها إليهم صادرة باسم الأمة كلها، ليس فيها اسمي ولا اسم ابن باديس، لأن أولئك الفقهاء كانوا يخافوننا لما سبق لنا من الحملات الصادقة على جهودهم، ووصفنا إياهم بأنهم بلاء على الأمة وعلى الدين لسكوتهم على المنكرات الدينية، وبأنهم مطايا للاستعمار يذلُّ الأمة ويستعبدها باسمهم.

فاستجابوا جميعاً للدعوة، واجتمعوا في يومها المقرَّر، ودام اجتماعنا في نادي الترقي بالجزائر أربعة أيام كانت من الأيام المشهودة في تاريخ الجزائر، ولما تراءت الوجوه وتعالت أصوات الحق، أيقن أولئك الفقهاء أنهم ما زالوا في دور التلمذة، وخضعوا خضوع المسلم للحق، فأسلموا القيادة لنا. فانتُخب المجلس الإداري من رجال أكفاء جمعتهم وحدة المشرب، ووحدة الفكرة، ووحدة المنازع الاجتماعية والسياسية، ووحدة المناهضة للاستعمار. وقد وكل المجتمعون ترشيحهم إلينا، فانتخبوهم بالإجماع، وانتخبوا ابن باديس رئيساً، وكاتب هذه الأسطر وكيلاً نائباً عنه، وأصبحت الجمعية حقيقة واقعة قانونية. وجاء دور العمل.

وهذه المرحلة من حياتي هي مناط فخري وتاج أعمالي العلمية والاجتماعية والأفق المشرق من حياتي.

وهذه هي المرحلة التي عملت فيها لديني ولغتي ووطني أعمالاً أرجو أن تكون بمقربة من رضى الله، وهذه هي المواقف التي أشعر فيها كلما وقفت أردُّ ضلالات المبتدعة في الدين، أو أكاذيب الاستعمار، أشعر كأن كلامي امتزج بزجل الملائكة بتسبيح الله.

وكلَّفني إخواني أعضاء المجلس الإداري في أول جلسة أن أضع للجمعية لائحة داخلية نشرح أعمالها كما في أذهاننا، لا كما تتصوّرها الحكومة وأعوانها المضلِّلون منا، فانتبذت ناحية وواصلت طرفي ليلة في سبكها وترتيبها، فجاءت في مائة وسبع وأربعين مادة، وتلوتها على المجلس لمناقشتها في ثماني جلسات في أربعة أيام، وكان يحضر الجلسات طائفة كبيرة من المحامين والصحافيين العرب المثقفين بالفرنسية، فأعلنوا في نهاية عرض اللائحة إيمانهم بأن العربية أوسع اللغات، وأنها أصلح لغة لصوغ القوانين ومرافعات المحامين، وكأنما دخلوا في الإسلام من ذلك اليوم. وخطب الرئيس عند تمام مناقشة اللائحة وإقرارها بالإجماع خطبة مؤثرة أطراني فيها بما أبكاني من الخجل، وكان مما قال: عجبت لشعب أنجب مثل فلان أن يضلَّ في دين أو يخزى في دنيا، أو يُذلَّ لاستعمار، ثم خاطبني بقوله: وري بك زناد هذه الجمعية.

3 ـ الاستعمار المادي والاستعمار الروحاني:

كان من نتائج الدراسات المتكررة للمجتمع الجزائري بين الإبراهيمي وبين ابن باديس منذ اجتماعهما في المدينة المنوَّرة، أن البلاء المنصبّ على هذا الشعب المسكين ات من جهتين متعاونتين عليه، وبعبارة أوضح من استعمارين مشتركين يمتصان دمه ويتعرقان لحمه، ويفسدان عليه دينه ودنياه: استعمار مادي هو الاستعمار الفرنسي يعتمد على الحديد والنار، واستعمار روحاني يمثِّله مشائخ الطرق، المؤثرون في الشعب، والمغلغلون في جميع أوساطه، المتاجرون باسم الدين، المتعاونون مع الاستعمار عن رضى وطواعية. وقد طال أمد هذا الاستعمار الأخير، وثقلت وطأته على الشعب حتى أصبح يتألم ولا يبوح بالشكوى أو الانتقاد خوفاً من الله بزعمه. والاستعماران متعاضدان يؤيِّد أحدهما الاخر بكل قوَّته، ومظهرهما معاً تجهيل الأمَّة لئلا تفيق بالعلم فتسعى في الانفلات، وتفقيرها لئلا تستعين بالمال على الثورة، فكان من سداد الرأي وإحكام التدبير بين الشيخ الإبراهيمي وبين ابن باديس، أن تبدأ الجمعية بمحاربة هذا الاستعمار الثاني لأنه أهون.

قال الإبراهيمي: وكذلك فعلنا، ووجد المجلس الإداري نظاماً محكماً فاتبعه، لذلك كانت أعمال الجمعية متشعبة، وكان الطريق أمام المجلس الإداري شاقاً، ولكنه يرجع إلى الأصول الاتية:

ـ تنظيم حملة جارفة على البدع والخرافات والضلال في الدين، بواسطة الخطب والمحاضرات، ودروس الوعظ والإرشاد في المساجد والأندية والأماكن العامة والخاصة، حتى في الأسواق، والمقالات في جرائدنا الخاصة.

ـ الشروع العاجل في التعليم العربي للصغار فيما تصل إليه أيدينا من الأماكن، وفي بيوت الاباء ربحاً للوقت قبل بناء المدارس.

ـ تجنيد المئات من تلاميذنا المتخرجين، ودعوة الشبان المتخرجين من جامع الزيتونة للعمل في تعليم أبناء الشعب.

ـ العمل على تعميم التعليم العربي للشبان على النمط الذي بدأ به ابن باديس.

ـ مطالبة الحكومة برفع يدها عن مساجدنا ومعاهدنا التي استولت عليها، لنستخدمها في تعليم الأمَّة دينها، وتعليم أبنائها لغتهم.

ـ مطالبة الحكومة بتسليم أوقاف الإسلام التي احتجزتها ووزَّعتها على معمِّريها، لتصرف في مصارفها التي وقفت عليها. وكانت من الكثرة بحيث تساوي ميزانية دولة متوسطة.

ـ مطالبة الحكومة باستقلال القضاء الإسلامي في الأحوال الشخصية مبدئياً.

ـ مطالبة الحكومة بعدم تدخلها في تعيين الموظفين الدينيين.

هذه معظم الأمهات التي تدخل في صميم أعمال الجمعية، منها ما بدأناه بالفعل ولاقينا فيه الأذى، فصبرنا حتى كانت العاقبة لنا، ومنها ما طالبنا به حتى أقمنا حق الأمَّة فيه، وفضحنا الاستعمار شرَّ فضيحة، ومجموع هذه المطالب في ظاهرها دينية، ولكنها في معناها وفي نظر الاستعمار هي نصف الاستقلال.

كانت السنة الأولى من عمر الجمعية سنة غليان: من جهتنا في تكوين الشُّعب في كل مدينة وكل قرية لتنفيذ مقاصد الجمعية، وغليان السخط علينا من الاستعمار، لأننا فاجأناه بما تركه مشدوهاً حائراً، لا يدري ما يفعل، ولا من أين يبدأ في مقاومة حركتنا، وتفرَّق أعضاء الجمعية على القطر كله يرشدون ويعظون ويزرعون الوعي، ويراقبون حركة التعليم ويحضرون أماكنه.

وعقدنا الاجتماع العام في السنة الثانية، فكانت النتيجة باهرة، والعزائم أقوى، والأمَّة إلينا أميل، وخرج المتردِّدون عن ترددهم، فانضموا إلينا، وأعيد انتخاب المجلس، فأسفر عن بقاء القديم، وزيادة أعضاء ظهرت مواهبهم في العلم، وكشَّر الاستعمار عن أنيابه، فبدأ يمنعنا من إلقاء الدروس في المساجد الواقعة في قبضته، وثارت نخوة الأمَّة، فأنشأت بمالها بضعة وتسعين مسجداً حرَّاً في سنة واحدة في أمهات القرى.

4 ـ عواصم المقاطعات الثلاث:

وفي هذه السنة قررت الجمعية تعيين العلماء الكبار في عواصم المقاطعات الثلاث، ليكون كل واحد منهم مشرفاً على الحركة الإصلاحية والعلمية في المقاطعة كلها.

قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: فأبقينا الشيخ ابن باديس في مدينة قسنطينة، وحمّلناه مؤونة الإشراف على الحركة في جميع المقاطعة، وخصصنا الشيخ الطيب العقبي بالجزائر ومقاطعتها، وخصصوني بمقاطعة وهران وعاصمتها العلمية القديمة تلمسان، وكانت هي إحدى العواصم العلمية التاريخية، التي أخنى عليها الدهر، فانتقلت إليها بأهلي وأحييت بها رسوم العلم، ونظمت دروساً للتلاميذ الوافدين على حسب درجاتهم، وما لبثت إلا قليلاً حتى أنشأت فيها مدرسة دار الحديث، وتبارى كرام التلمسانيين في البذل لها حتى برزت للوجود تحفة فنية من الطراز الأندلسي، وتحتوي على مسجد وقاعة محاضرات وأقسام لطلبة العلم، واخترت لها نخبة من المعلمين الأكفاء للصغار، وتوليت بنفسي تعليم الطلبة الكبار من الوافدين وأهل البلد، فكنت ألقي عشرة دروس في اليوم، أبدأها بدرس في الحديث بعد صلاة الصبح، وأختمها بدرس في التفسير بين المغرب والعشاء، وبعد صلاة العتمة أنصرف إلى أحد النوادي، فألقي محاضرة في التاريخ الإسلامي، فألقيت في الحقبة الموالية لظهور الإسلام من العصر الجاهلي إلى مبدأ الخلافة العباسية بضع مئات من المحاضرات.

وفي فترة العطلة الصيفية كان يختم الدروس كلها، ويخرج يومياً للجولان في الإقليم الوهراني مدينة مدينة وقرية قرية، فيلقي في كل مدينة درساً أو درسين في الوعظ والإرشاد، ويتفقد شُعبها ومدارسها، وكانت أيام جولاته كلها أيام أعراس عند الشعب، يتلقونه على عدة أميال من المدينة أو القرية، وينتقل بعض الناس معه إلى عدة مدن وقرى. فكان ذلك في نظر الاستعمار تحدياً له ولسلطته، وفي نظر الشعب تمجيداً للعلم والدين وإغاظة للاستعمار. فإذا انقضت العطلة اجتمع في الجزائر العاصمة وعقد الاجتماع العام، وفي أثره الاجتماع الإداري، ويقدم كل واحد من الدعاة حسابه، ويتم تنظيم شؤون السنة الجديدة، ثم ينصرفون إلى مراكزهم.

وبلغت إدارة الجمعية وهي في مستهل حياتها من النظام والقوة مبلغاً قوياً بديعاً، فأصبحوا لا يتعبون إلا في التنقل والحديث. أما الحكومة الاستعمارية ؛ فقد بنى العلماء أمرهم من أول خطوة على الاستخفاف بها وبقوانينها، وقد كانوا يعلنون في جرائدهم كل أسبوع بأن القوانين الظالمة لا تستحق الاحترام من الرجال الأحرار، ويقولون: نحن أحرار فلتفعل فرنسا ما شاءت.

وكان هذا الكلام ومثله أنكى عليها من وقع السهام، لأنها لم تألف سماعه، وقد اطمأنت إلى أن الشعب الجزائري قد مات، كما صرح بذلك أحد ساستها الكبار في خطبة ألقاها على ممثلي الأمم في المهرجان الذي أقامته في عيدها المئوي لاحتلال الجزائر، وكان مما قال: لا تظنوا أن هذه المهرجانات من أجل بلوغنا مائة سنة في هذا الوطن، فقد أقام الرومان قبلنا فيه ثلاثة قرون، ومع ذلك خرجوا منه، ألا فلتعلموا أن مغزى هذه المهرجانات هو تشييع جنازة الإسلام بهذه الديار.

وكانت أعمال الإخوان في المقاطعتين الأخريين مشابهة لأعمال الشيخ محمد البشير بمقاطعة وهران، لأنهم كانوا على منهاج واحد، ويسيروا على برنامج واحد، عاهدوا الله على تنفيذه.

يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:

الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى

alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF

الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf

الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022